إساءة تركية للبنان

لعله واحد من أسوأ وأغرب التقديرات لمستقبل الوضع في لبنان، لا سيما أنه يصدر عن مسؤول يفترض أنه ذكي ورصين، ويمثل دولة يفترض أنها تعرف اللبنانيين جيدا وقامت ولا تزال تقوم بأدوار مهمة في تقريب وجهات النظر وفي منع الاشتباك في ما بينهم.
تصريحات وزير الخارجية التركية أحمد داود أوغلو خلال زيارته الى طهران الأسبوع الماضي التي عرج فيها بشكل مبتسر على لبنان كانت خلوا من أي دراية او عناية او وقاية، وهي لا تقود إلا الى استنتاج وحيد هو ان لبنان متجه إلى صراع حتمي بين السنة والشيعة يشبه الصراع القائم في العراق ويستدعيه، ويكمل الصراع القائم في سوريا ويستوطنه…

هذه المواقف جاءت في سياق سجال كان الوزير التركي يخوضه مع طهران ويحثها فيه على تغيير خياراتها السياسية في البلدان العربية الثلاثة، وعلى عدم الوقوف في وجه ما وصفه بالنهوض السني الذي يشهده العالم العربي، والذي يمر حسب قوله عبر تركيا… على نحو ما كان يقول القادة الفلسطينيون في الماضي عن أن طريق القدس تمر في جونيه، حسب استعارته نفسه.
السجال التركي مع طهران كان من موقع الحرص على العلاقات الثنائية الجيدة فعلا بين الدولتين اللتين تشكلان اليوم قطبي العالم الإسلامي، وكان من موقع النصح لطهران بالتخلي عن خيارات سيئة حقا، وعدم المضي قدما في سلوك مسار تصادمي مع الغالبية الشعبية العربية السنية، التي باتت تتوجس من إيران أكثر من اي طرف آخر.. ومن دون أن يكون ذلك نتيجة تحريض أميركي فقط، على ما يظن حلفاؤها ومؤيدوها.

والنصح لم يكن كما يبدو حتى الآن نتيجة تحليل تركي بأن طهران تقف خلف السياسة الهوجاء التي يعتمدها رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ضد خصومه السنة أو خلف السياسة الخرقاء التي ينتهجها النظام السوري ضد معارضيه، او خلف السياسة الجوفاء التي اختارها حزب الله بإطاحة حكومة الغالبية البرلمانية اللبنانية وتشكيل بديل هجين لها.
لكن الانتقال من النصح الى التقدير بأن لبنان هو وجه الشبه للعراق وهو رجع الصدى لسوريا يحط من قدر السنة والشيعة اللبنانيين، وينكر على جري العادة التركية القديمة، موقع المسيحيين ودورهم الذي يبدو الآن متواضعا نظرا لتواضع قياداتهم السياسية والدينية لكنه كان وسيبقى أكبر من دور المسيحيين العراقيين والسوريين وهو لا يزال مؤثرا في الحؤول دون غرق لبنان في مستنقع فتنة مذهبية، برغم تورط بعض الرموز المسيحية في إشعالها!صحيح ان شيعة لبنان وسنته أنتجوا أحزابا وجماعات تبكي اي قتيل شيعي عراقي او تنصر اي مضطهد سني، لكن الغالبية الساحقة من أتباع المذهبين تشعر بالغربة الفعلية عما يجري في العراق من فتنة، تماماً كما تشعر بالافتراق عما يجري في سوريا وبالإيمان بأن الديموقراطية السورية المقبلة ستكون بشارة لبنان الموعودة، بما تعنيه من تطور الشقيق الاكبر ونضجه وإحجامه عن التدخل في الشؤون اللبنانية، وبما تمثله من دفع للتغيير الديموقراطي المنشود في لبنان.

لم يكن الوزير داود أوغلو موفقا في تقديره للحالة المدنية (وليس العلمانية) اللبنانية التي تحول دون أن ينخرط اللبنانيون في فتنة مذهبية قد يكون لها متحمسون، لكن ليس لها جمهور سني او شيعي او درزي او مسيحي طبعا.. لأن ذاكرة الحرب الاهلية لا تزال حية في أذهان الجميع، ولأن العراق وسوريا يبتعدان يوما بعد يوم عن لبنان.
  

السابق
التهديدات الأمنية للدول الخليجية
التالي
لبنان لا يعترف بالتعليم من بُعد