السياحة أفيون الشعوب

السياحة أفيون الشعوب؟ كيف ستتبلور عمليات اقناع "الشعوب" بالجواب الملائم لمصالحها في دول سياحية مثل تونس ومصر ولبنان،لاسيما في هذا الزمن الديموقراطي البادئ على الضفاف العربية من البحر الابيض المتوسط؟.

اتصل بي هاتفيا صباح الاثنين المنصرم صديق لبناني عزيز لمعايدتي بالعام الجديد وأخبرني انه أمضى عطلة رأس السنة في القاهرة وعاد امس الاحد. وخلال استرسال الصديق في الحديث عن معلوماته وانطباعاته قال انه فوجئ بحجم انتشار التيار السلفي في الاوساط الاجتماعية المصرية من ادنى الى أعلى والعكس. وقال انه دُهش بصورة خاصة من التأييد الذي وجد ان السلفيين يحظون به بين سائقي التاكسي في القاهرة، وانه حين كان يسأل سائق التاكسي، بعد ان يخبره السائق أنه مؤيد لهم، ألا يخشى فقدان او تضاؤل مدخوله من وصولهم الى السلطة لأن على رأس برامجهم "مكافحة" أنماط من السياحة بما هي في رأي السلفيين المعلن مجرد فلتان اخلاقي؟ كان العديد من السائقين يجيبونه ان الامور اصبحت غير مقبولة وأن "شرع الدين" يجب ان يطبق لتلافي الغضب الالهي.

كان هذا الموقف غير ماركسي كلياً ! ويشكل "نكسة" أخرى غير متوقعة لهذه النظرية لدى هذا الصديق المثقف غير اليساري قياسا بأن التحليل الماركسي الكلاسيكي يفترض تطابق الوعي السياسي مع المصلحة الطبقية. فسائقو سيارات الاجرة هم في منظومة الصناعة السياحية جزء من طبقة دنيا مستفيدة كفئة وكلاء العمال في المجتمع الصناعي حسب التصنيفات الماركسية، وبالتالي هم فعلا في مقدمة المتضررين من الخطر الجاد الذي بات يهدد القطاع السياحي المصري بسبب الاوضاع الأمنية منذ اندلاع الثورة. والقطاع السياحي عدا عن ضخامته التقليدية والمتزايدة منذ توقيع معاهدة السلام مع اسرائيل، هو من اكثر القطاعات عدالةً نسبيةً في توزيع الثروة ان لم يكن أكثرها على الاطلاق، بحكم طبيعة صلته المباشرة مع السياح، من ادنى حيث الخدم والسائقون الى أعلى حيث الشركات الكبرى مرورا بما بينهما من فئات وسطى عديدة.اذن الخلاصة التي طالما "دوّخت" الشيوعيين في بلدان كثيرة هي في نموذجنا المصري هنا : سائق التاكسي – اين؟ في مدينة مفتوحة كالقاهرة- يحمل وعيا دينيا متشددا معاديا لمصالحه في السياحة المزدهرة.
الدين أفيون الشعوب حسب جملة كارل ماركس الشهيرة التي بقيت وحدها في الذاكرة الشقية رغم أنها جاءت في سياق نص هائل حول الدين… ام أن السياحة هي أفيون الشعوب؟ عليكم اقناع"الشعوب" بالجواب، ولاسيما في الزمن الديموقراطي الحقيقي البادئ على ضفاف البحر الابيض المتوسط "العربي" حيث تأتي الديموقراطية بالاسلاميين من كل الانواع ولاسيما "حركات الاخوان المسلمين". الآن الليبراليون دعاة حرية الفكر والسوق وليس فقط ذوي السمعة الالحادية "العاطلة" يواجهون المأزق الديني او الأدق مأزق صعود وسيطرة الحركات الدينية… لفترة انتقالية لا نعرف متى تنتهي.

من المثال المصري السلفي لماذا لا نعود الى "سلفية" لا تحمل اي عنوان بريدي معلن في مدينة صور اللبنانية ومحيطها ولكنها تحاول ان تحذِّر من ان تصبح السياحة "أفيون الطائفة الشيعية" على شاطئ احدى أعرق المدن الفينيقية اليونانية الرومانية الانجيلية العربية. هذه المدينة- التي هي فعليا المدينة الوحيدة على شاطئ جبل عامل ذات مواصفات مدينية- أبرمت "عقدا" غير مكتوب بعد حرب 2006 والقرار الدولي 1701 بين مجتمعها والقوة الأصولية العسكرية المسيطرة على المنطقة بتعزيز الليبرالية الاجتماعية التي من شأنها ان تأتي باقتصاد سياحي مزدهر. من الطبيعي ان حركة "امل" حليفة "حزب الله" كانت مرحبة وداعمة له كقوة صاحبة القرار "الرسمي" في صور منذ الثمانينات القرنْ عِشرينية.
… ولقد عاشت هذه التسوية دون نهي عن المنكر لأن "المعروف" كان ينضح خيرا لكثيرين. كانت سنوات ما بعد 2006 سنوات نجاح لبناني لصور جعلها قبلة سياحة داخلية ترفيهية واسعة للجيل الشاب اللبناني من الفئات الوسطى والعليا في العاصمة بيروت والجبل وحتى الشمال ناهيك عن كونها مركز استقطاب قوات اليونيفيل في ساعات وايام الاستراحة الى سياح عاديين من الخارج. سيساهم في ذلك النجاح التنامي السلفيُّ الاجتماعيُّ القابض عمليا على مدينة صيدا والذي يكاد يقبض على … طرابلس لولا فسحة بعض أحياء "المينا".

… السلفية لها دين تدّعي أنها تتكلم باسمه ولكن ليس لها مذهب واحد سني او شيعي داخل هذا الدين الحنيف بل مذاهب: ها هي الضربة في صور ضد السياحة . ولا نعرف حتى اللحظة هل ثمة "خللٌ" ما حصل في "العقد" ام انشقاقٌ على "العقد" ام تخريب ضده ادى الى هذه السلسلة من التفجيرات ضد مؤسسات سياحية؟
شاطئ ثالث كانت له أمجاده في تأسيس صناعة سياحية واسعة بَنَت استراتيجيتها على استقطاب سياح الطبقة الوسطى وشرائحها الدنيا الأوروبية بسبب قرب المسافة… هذا الشاطئ تواجه ايضا ديموقراطيتُه، التي يحتل الموقع الاول فيها الاسلاميون، تحدي تجديد حيويته السياحية التي خسرت 40 بالماية من مداخيلها في العام 2011 وفقدت أكثر من عشرين ألف وظيفة. وسنرى ما اذا كانت القوى التونسية الجديدة بائتلافها الاسلامي العلماني الثلاثي ستنجح في مواجهة اشكال الحظر الاجتماعي على العديد من مظاهر الليبرالية الاجتماعية العريقة بين النخب التونسية.

أحدث فيلم وثائقي حول الموضوع نال جائزة فرنسية هو فيلم المخرجة التونسية ناديا الفاني:"لائكية ان شاء الله" وفيه تضع الفاني المسألة مباشرة في المجال السياحي كمستوى اساسي من مستويات الصراع السياسي بين الاسلاميين و العلمانيين. وتكاد ناديا الفاني، خصوصا في الجزء الاول، تعطي الانطباع، دون ان تقول، انها تضع حق شرب الخمر موازيا لحق الاقتراع في ديموقراطية مجتمع مسلم. الا ان اصحاب المطاعم حيث صورت المخرجة يحلُّونها على طريقتهم: يقدمون الخمر لمن يعتقدونهم غير مسلمين ويمنعونه عن التوانسة كمسلمين.
من الممكن ان تنشأ "سلفيات سياحية" في دول غلبة السياحة الدينية كالسعودية والعراق، لكن على شطآننا المتوسطية فان السلفية هي مشروع افقار مباشر بل اقفال مباشر لمدن أقامت توازنا متناغما بين ايمانها الديني وانفتاحها الثقافي الاجتماعي.
لقد لجأ المصريون تاريخيا الى بناء مقامات لعدد كبير من الأولياء حتى يكسروا التفسير الصارم للدين، كذلك الاتراك. ولن يعدموا اليوم في ديموقراطيتهم التي استحقوها ان يجدوا وسائلهم في مواجهة الثقافة الانغلاقية
القاتلة.  

السابق
السفير: المراسيم النفطية خريطة طريق للتنقيب شـهـر لهيـئـة إدارة القـطاع … وثـلاثـة لإطـلاق المنـاقـصات؟
التالي
النهار: ميقاتي يحفّز حكومته على تجاوز الانقسامات وبان كي – مون يثير ترسيم الحدود مع سوريا