كتّاب مشهورون.. كتّاب مجهولون، “لوليتا” نابوكوف مثالاً

لنفترض بأن فلاديمير نابوكوف لم يخترع شخصيته الشهيرة "لوليتا"، إنما وقعت عليه صدفة، فتلقفها ذات يوم، في مكان ما، مثل أي فكرة أخرى يمكن أن يصطدم بها المرء، لأسباب خارجة عنه، أو في مناسبة لم يخترها، ومن ثم طوّرها لاحقاً كما لو كانت فكرة شخصية خاصة به، اخترعها واصطنعها بنفسه. لنفترض بأن الأمر كان على هذا النحو، ما الذي كان سيحصل؟ هل ستكون في هذه الحالة "لوليتا" (الرواية الفضائحية في الوهلة الأولى، والتي قادت كاتبها بعد ظهورها مباشرة للمثول أمام القضاء، ثم الرواية الناجحة لاحقاً)، رواية أخرى غير تلك الرواية المعروفة التي قرأها الملايين وصورت مرتين للسينما؟ هل كانت تراجعت مكانتها الأدبية؟ بل هل سيصل الأمر بأحدهم أن يشك بأصالة العمل ومهارة الكاتب الإبداعية؟ الجواب على ذلك: كلا. على العكس، مما يظنه البعض، لن يشير أحد بالبنان إلى فلاديمير نوباكوف، ويتهمه بالإنتحال. كلا، وأكثر ما يمكن أن يحدث في هذه الحالة، هو أن الأدب يحوز عن طريق هذا الاكتشاف الجديد مفارقة أخرى، تُضاف إلى معرفتنا الأدبية. صحيح إنها ستغير بالتأكيد من قراءتنا للرواية، لكنها لن توسع بالضرورة من معرفتنا التي نفتخر بها للرواية.
هذا ما حدث في ألمانيا، حيث يستعاد النقاش في الأوساط الأدبية، وفي الصفحات الثقافية، حول هذا الموضوع منذ نشر العالم الأدبي "ميشائيل مار" مقالة له تحدث فيها عن إكتشافه الجديد، وكيف إنه عثر صدفة على قصة غير معروفة منشورة في العام 1916، لكاتب هو حتى اليوم غير معروف، تحوي العناصر الأساسية التي اعتمد عليها نابوكوف في بناء روايته المشهورة "لوليتا": فندق في الخارج، رجل متعلم في منتصف حياته، وفتاة مراهقة تبلغ سن الرشد لتوها، أسمها "لوليتا"، عجوزان يقعان في حبها، أسمهما "فالزير". وخلاصة النقاشات التي دارت حتى الآن، والتي نستعرضها هنا، تقول: من يقرأ النص المجهول حتى الآن يكتشف القرابة بين النصين بالفعل، فكل القرائن – وهي عديدة – تتحدث عن قرابة القصتين، وتبعث على التساؤل: "لا بد أن تكون هناك صدفة جمعت تقاطع الأحداث في القصتين"؟ وليس من المستبعد جداً، أن يكون فلاديمير نابوكوف، الذي كان منفياً في تلك السنوات في العاصمة الألمانية برلين (قرابة 15 عاماً) قد قرأ في منفاه البرليني قصة "الملعونة جيوكوندا" (أو إطلع عليها على الأقل) للشاب الألماني هاينز فون ليشبيرغ، الذي لم يكن كاتباً معروفاً لا في تلك الفترة، ولا في الفترات اللاحقة، أو ان هناك مصادفات أخرى يجب أن تكون قادت إلى هذه التوازيات ذات يوم، بطريقة ما، في مكان ما، ليس بالضرورة أن يكون برلين. ربما في مكان آخر، في مكان بعيد منعزل.
القصة التي كتبها ليشبيرغ معقدة بعض الشيء، تحوي الكثير من البلاغة الأدبية. إنها تبدأ بالراوي، الذي يتعرف صدفة على عجوزين "هائجين جنسياً" في حانة نبيذ، أخوين، يتحدثان بهذر عن "عارهما" الجنسي، عن فتاة مراهقة شبقة أسمها "لوليتا"، والتي كانا التقيا بها في إسبانيا. الراوي الذي تأثر بكلامهما، يسافر هو الآخر إلى إسبانيا، لكي يتعرف على هذه "الشيطانة الصغيرة" لوليتا. هو الآخر سيقع في هواها. لكن الفتاة كما تصفها القصة، ليست فنانة بالإغراء وحسب، إنما هي شيطان يستحوذ على الأرواح الطيبة؛ لعنة حيوية، تسلب الرجال في الوهلة الأولى عقولهم، ثم تحطم حياتهم في النهاية. ربما تفترق هنا الفتاتان، اللوليتان، عن بعضهما؛ صحيح أن لوليتا نوباكوف شيطان إيروسي، إلا أنها تحررت كثيراً من الرمزية "الشيطانية" التي دمغها بها ليشبيرغ؛ إنها فتاة مراهقة من لحم ودم لا أكثر، تتحرك في المنطقة البعيدة عن الرمز "الأخلاقي". بعبارة أخرى، لوليتا نوباكوف تقترب في سلوكها من الثقافة الشعبية، بينما تتحرك لوليتا ليبيرغ أكثر في علو أدبي يغرف من الأخلاق.
ونحن مدينون لإكتشاف الناقد وعالم الأدب ميشائيل مار، الذي بعد نشر مقالته، جعلنا نقرأ القصة الأصلية، كعمل صغير يكشف عن موهبة كاتب يعرف كيف يسلي قراءه لا غير. إنها مفارقة أيضاً، أن يرى هذا العمل النور، ويخرج من طي النسيان، ليس كما جرت العادة، عندما تستعيد بعض الأعمال مكانتها، بسبب إجحاف بحقها، أو بسبب خطأ بالتقييم. كلا، إنه يخرج للنور، لأنه يُلحق ببساطة بعمل آخر، عمل كبير في الحقيقة!
ليست تلك هي المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك، فالروايات الكبيرة هي كواكب كبيرة يبهر ضياؤها النظر، لكنها من ناحية أخرى، لا تومض بهذ القوة، من دون وجود أجرام صغيرة دائرة في فلكها، والتي بلا شك لا تستعير بعض ضوئها منها وحسب، إنما تجذب بشكل مغناطيسي الأجسام الصغيرة في محيطها، كل ما علق هناك من النيازك وحتى غبار النجوم المنطفئة!
لقد تحول ميشائيل مار في ألمانيا في السنوات الأخيرة إلى أخصائي في المجالات الهامشية، وبالذات في عمله الدائب بالتحري عن الزوايا المعتمة التي تحركت فيها الروايات الفضائحية، قبل أن تنطلق إلى فضائها الكبير وتصل إلى الجمهور. هكذا بدأ مع توماس مان، في روايته الاستثنائية "موت في البندقية"، ليكشف عن المثلية الجنسية لصاحب "نوبل". لم تكن هناك في البداية أيضاً أدلة "ملموسة" تتحدث عن علاقة توماس مان بالغلمان، أو بغلام واحد على الأقل. رغم وجود اشارات أو شواهد فقط، بثها توماس مان ذاته، هنا وهناك، تتحدث عن ذهابه مع صبي "بغي" في نابولي. ميشائيل مار قدم خدمة للأدب، عن طريق تقريبه لتلك المسافة التي تربط علم الأدب بالرغو، بالحديث الفاضح، أو بالعكس، تلك التي تربط الرغو بعلم الأدب.
ميشائيل مار هو عالم لغة ورجل تحر، يجد مجال عمله عند كتّاب معروفين جداً، وبالذات في كتبهم الفضائحية التي كتبوها، والتي تختلف كثيراً عن بقية أعمالهم. صحيح أن ما يجده رجل التحري الأدبي، سيكون جزءاً من لعبة اجتماعية، تتطفل على عمل أولئك الكتاب "الكبار"، إلا إنه يقدم خدمة فريدة من نوعها، عندما ينظم علاقة جديدة بين علم الأدب والحديث الفاضح، لغو الجمهور، وتناقل الإشاعات. وهو بهذا الشكل يثبت أساساً علمياً جديداً، يقلل من قيمة الفضيحة، ويقرب العالمين من بعض، لأن الأدب في حقيقته لا يعير اهتماماً كبيراً للحديث الفاضح وحسب، إنما يغرف منه في مناسبات غير قليلة. أيضاً علينا ألا ننسى بأن عالم الأدب هو أحد محاور الحديث الفاضح، ليس في العالم المتقدم "أدبياً" فقط، إنما عندنا أيضاً، ألا تزدحم عندنا بالذات تلك المقاهي، التي يُطلق عليها بمقاهي الأدباء، ألا تزدحم بثقافة الإشاعة والبحث عن الفضائح!؟ وحسب ميشائيل مار، ليس هناك من كاتب منتحل، إنما هناك كاتب كبير وآخر طوته العتمة. وإن أي إكتشاف جديد، سيجعل الثاني يخرج الى النور.

السابق
في ذكرى غيابه السابعة:ابوعمار رمز الوطنية الفلسطينية
التالي
العالم العربي بين الجهاد والديموقراطية