تغريد سعد الحريري

للمرة الثانية، يلعب سعد الحريري بذكاء، إذ يخلط بين العمل والمتعة.
في المرّة الأولى، تخلّى عن تكلّف لقب «الدولة» الذي أثقل عليه جبينه المقطّب وكتفيه، وحتى لسانه. وإذا به، حين يخرج من السرايا، يتخفف من أثقالها، فيرتاح إذ يخلع عنه سترته وربطة عنقه ويلقي خطابه العامي الشهير. وعلى الرغم من هجوم خصومه الساخر عليه في حينها، فقد اقترب يومها من جمهوره، واقترب جمهوره منه، كما لم يفعل في حياته السياسية الكثيفة على حداثتها.
متابعاً التخفف من أعباء يُلزِم الساسة اللبنانيون أنفسهم بها بلا طائل، قرر الحريري، منذ الخميس الفائت، أن يتسلى بأدواته الالكترونية. هكذا، وبدلاً من مشقة الاطلالات التلفزيونية، أو المؤتمرات الصحافية، أو جفاف البيانات الصادرة عن مكتبه الاعلامي، لجأ الحريري، وهو ابن الجيل المخضرم في زمن المعلوماتية، إلى واحدة من أكثر طرق التواصل حداثة وبساطة وذكاء، أي «تويتر».

بجملة واحدة، قلب صفحته على الموقع من مكان مهجور، اسوة بمئات صفحات السياسيين، إلى مكان «مزدحم» بمن يمطرونه بالتحيات والاسئلة متفاعلين مع كل عبارة يكتبها. في المرة الاولى لدخوله «شخصياً» إلى صفحته، وبعدما اضطر إلى التأكيد أكثر من مرة أنه هو، «سعد»، الموجود الآن، غرق في الاجابة على ما استطاع، معتذراً مرة بعد مرة، لأنه لن يقدر على الاجابة على كل الأسئلة. وفي موقع تقوم فكرته الاساسية على سرعة نشر الخبر، راح عدد متابعي الصفحة يزداد مع مرور الساعة، والحريري يزداد اقتراباً من جمهور منتقى، شاب في معظمه. 
بانكليزية سهلة، وبجمل لا تحتمل التأويل أو التذاكي، تحدث الحريري عن الوضع السوري، كما عن يومه الذي أمضاه مع عائلته، وعن أهمية الرياضة كما عن أنه لم يوقع على ورقة تفاهم حول المحكمة مع «حزب الله»، وعن هواياته كما عن وضع تيار المستقبل في استراليا… وصولاً إلى معايدة مناصر يخبره بأن اليوم عيد ميلاده. وبدا شديد الاهتمام بالرد تحديداً على من عاتبه لأنه لم يجب عن سؤالهم، حتى راح ينصح سائليه بأن يعيدوا عليه السؤال نفسه اكثر من مرة كي يتمكن من رؤيته على شاشته الملآنة بمن يريدون التحدث معه.
إطلاق المواقف السياسية كان، هنا، همّاً ثانوياً أمام ما يريده الحريري فعلاً، وما أمنّه له الموقع: صورته المتخيّلة في أذهان محبيه، واحداً مثلهم، من جيلهم، يفهم لغتهم، واختصاراتها وتعبيرات الوجوه المرسومة بالنقاط والاقواس فيها. واحد منهم يحكي معهم ويحكون معه، وهذا ليس تفصيلاً عابراً، في اتصال من طرفين، وليس من طرف واحد، على ما عوّد السياسيون جمهورهم.

«كما أنا». لا سبيل آخر للنجم لإثارة المزيد من اهتمام الجمهور به إلا تقديم نفسه كما هو (أو كما يشاء أن يكون)، عادياً وعفوياً وخالطاً الجد بالمزاح، ساخراً حيناً ومخطئاً حيناً، مصححاً خطأه، مناقشاً أكثر مما هو ملقماً، منهياً عباراته باستفهامات من نوع: «هل أنا محق؟ ألستم معي في ما أقول؟»، متحرراً من جمود قد يعجز عن التحرر منه أمام الكاميرا وتعقيداتها. كما أنه من الواضح أن التعبير باللغة الانكليزية يسعفه اكثر بمراحل من العربية الفصحى التي لم يعرف عنه حبه لها قط.
اقتحام الحريري لـ«تويتر»، عفوياً كان أم مشبعاً دراسة، دوّى، مثبتاً أكثر من نجاح. فقد حرّك، ولو بالشكل، ركوداً لفظياً مستداماً في الجدالات، حيث بات الحديث عن الهوايات، مثلاً، مدخلاً للردود، وهذا، في أقل تقدير، تلوين لا بأس به في الخواء السياسي اللبناني، يعين على تحمل الضجر الذي تثيره السياسة والسياسيون في النفوس. كما أنه أكد، من جديد، ان المواقف السياسية التي ترّن كالأجراس هي تلك المختصرة والسريعة المقتصرة على بضع كلمات، وليس المطوّلات المحشوة بتكرار ما لا لزوم له.

إلى ذلك، فقد افتتح الحريري عالماً مجهولاً لطبقة سياسية بعضها ما زال «يبرق» مهنئاً، أو معزياً، في فعل غامض لم يعد يُدرى كنهه. عالم مواقع التواصل الاجتماعية التي رسخت أساسية وجودها كما قدرتها الهائلة على جعل الإعلام أكثر ديموقراطية والسياسة أكثر تفاعلية والفرد اكثر حضوراً وقوة. ولم تعد السخرية من «تويتر» أو من «فايسبوك» أو غيرهما لتثير إلا السخرية ممن لا يعرفون عمّ يتكلمون.
وفي هذا الأمر، مثلاً، يمكن سؤال الحريري حين يتواجد يومياً على «تويتر»، وإن من دون تحديد موعد ثابت مسبقاً. غير أن السؤال قد لا يجد رداً عنده هو الذي يمضي ساعات في جهد مضن وبلا توقف ليرد على متابعيه وقد تضاعف عددهم في اسبوع، والرقم آخذ في الارتفاع، وهم ليسوا بالضرورة مناصرين، لكن تغريد سعد الحريري، أو زقزقته، أو ما شئنا من ترجمة لكلمة twitter، كان مسموعاً في الاسبوع الفائت أكثر مما كان مسموعاً مذ دخل معترك السياسة، الا اذا استثنينا ما جرّه عليه لسانه في «حقيقة ليكس» من متاعب.

والتغريد ليس فعل احتكار على الحريري طبعاً. يمكن للسياسيين جميعاً أن يغردوا كلٌ على شجرته ولأبناء غابته. بل لا شك أن طاولة الحوار المقبلة ستلاقي نجاحاً غير متخيل اذا ما انعقدت على «تويتر». فهي ستكون تحت أعيننا جميعاً، ويمكننا أن نحكم عليها مباشرة، كما أنه يمكننا التدخل مشاركين فيها محاورين ومقرعين لهذا أو لذاك. وستجنب لبنان ازدحامات سير مرور المواكب. وكما ستوفر علينا رؤية المتحاورين بابتساماتهم، مجتمعين حول طاولة واحدة، فهي ستوفر عليهم انفسهم عذابات لقاء بعضهم بعضاً.
وحتى تلتئم مثل هذه الطاولة التي ستكون افضل مما لو كانت حقيقية، وحتى يلحق به الآخرون، يستمر سعد الحريري وحده مغرّداً داخل سربه الالكتروني، مجيداً الغناء، هذه المرة، أكثر من أي مرة. 

السابق
الوضع اللبناني معلّق بين حوار مرفوض وتوترات الثورة السورية
التالي
لا توجد كائنات فضائية على الأرض