الثــورة السـوريــة مـوديــل ســواطيــر- 2011

 «ما يحز بالنفس هو احترام أعدائنا للعلم واستهانتنا واستخفافنا به!! وما يحز في النفس أننا لا نعرف من لعبة الشطرنج إلا لعب أدوار بيادقها!!» كلما قرأت عن هنري كيسنجر الألماني- الأميركي اليهودي الذي خدم وقدم عظيم الخدمات لكل من أميركا وإسرائيل وكيف حصّل العلم والمعرفة أثناء عمله نهارا ودراسته ليلا حتى وصل إلى الحصول على درجة الدكتوراة من جامعة «هارفرد» بامتياز في العلوم السياسية وكيف نحط نحن من قدر العلم ونرمي به على «إننا أعرف وأفهم ممن يمتهنون العلم» ونقول مثلا لا الحصر «شو علاقة نهر النيل تاريخيا بوجود دولة مركزية في مصر؟؟» (حيث كان الحديث عن المقارنة بين الحالة السورية والحالة المصرية وخطورة اللعب في الداخل السوري لحساسيته بالمقارنة مع الداخل المصري) كما يقول أحد مؤيدي ومنظري «ثورة السواطير*» أصل إلى إحباط على تفريطنا بنقاط يمكن أن تكون قوة لنا بدلا من تكون قوة علينا!!!
والمفارقة أننا ندعي أننا من أمة أنجبت حضارة كان من قوامها أن: «في البدء كان الكلمة»، ثم تبعها أن: «أقرأ» وهذه المفارقة الكبرى في حين المفارقة الصغرى أن كيسنجر هذا هو من علمنا حقائق كثيرة عن أعدائنا وننساها ولا نقرأها وأغربها على الإطلاق قوله الشهير «إن العداء لأميركا خطر ولكن صداقتها كارثية» (*2) ومن لم يصدق مقولة كيسنجر هذه فليقارن الخطورة التي يعيشها الرئيس بشار الأسد هذه الأيام في عدائه لأميركا بسبب دفاعه عن استقلالية القرار السوري ودعمه للمقاومة وبين الوضع الكارثي المذل والمهين للرئيس حسني مبارك رغم صداقته (بل قل عبوديته لأميركا) أما المفارقة الوسطى الجامعة بين المفارقتين فهي أن «موشي ديان» يقول بعد احتلال القدس أولى قبلتي العرب والمسلمين: «لطالما العرب لا يقرؤون لا أحسب لهم حساب ولا أخاف منهم أبدا» في الوقت الذي يتخلى «الثوريون الجدد» عن فعل القراءة ويشنفون آذانهم مصغين (إمعانا في تكريس الثقافة الشفهية- مرحلة البدائية من ارتقاء الثقافة الحضارية- القابلة لتسير والتحكم بدلا من القراءة لما فيها من تفكير ونقد) إلى تعليمات ومصطلحات التي تصدرها وتبتكرها «الجزيرة» مثل مصطلح «حرب أهلية افتراضية» و«دارونية نظرية المؤامرة» (*3) وغيرها مما تحاول «الجزيرة» أن تسوقه من دريئات بهدف «خرتتة» (*4) بعض السوريين الذين ينطلقون بحماسة عمياء ملوحين بسواطيرهم الفكرية والمعدنية «السلمية» و«اللاطائفية» و«اللاإقصائية» وهكذا ينظّر جهابذة ما يسمى «الثورة السورية موديل سواطير -2011 « عن ثوار يقودون الثورة وهم أميون أو أشباه أميين!!! وها هي تجليات أميتهم، في أحسن حال إن لم نقل عمالتهم لأعداء الوطن، تتجلى في استهداف أساتذة الجامعات والأطباء والعقول العلمية وإصرارهم على منع عودة أولادهم وأولاد وطنهم إلى المدارس واستهداف المدرسين والعملية التعليمية برمتها.
لا يمكن للثورة أن تكون أمية وإذا كانت «أمية» بطريقة ما (كما يحلو للبعض أن يدافع حتى عن أميتها) لا يمكن أن تكون ظلامية وبهذه الدرجة من الظلامية تمثّل بالشهداء وتستبيح حرمة حياة بل ممات أولاد أوطانهم وتغتال أطباء وعلماء الوطن وتصر على إغلاق المدارس وعلى تشويه طفولة وبراءة الأطفال وتستغلهم في مظاهرات و«تشبيحات« (*5) جماعية ضد الدولة ومؤسساتها وأمن الوطن واستقراره.
وإذا كانت الثورة «سورية» فلا يمكن أن تكون مفاتيحها في اسطنبول والدوحة بيد رجل قرونوسطوي مثل «أمير قطر» وأداته الرخيصة «الجزيرة» التي تحرض تلفق وتسوق معطيات «ثورة السواطير» بل تكون هذه الثورة من تراب سورية ومن كبرياء سورية كما الثورة السورية الكبرى التي اندلعت ضد الاحتلال الفرنسي 1925 و1927 وغيرها من الثورات التي استمرت حتى توجت جهودها في تحقيق الاستقلال في حين أن «ثورة السواطير» هذه تكاد تدمر الاستقلال وقد تسفر- لا سمح اللـه- عن ارتهان الوطن وتهديم استقلاله لدول أخرى إقليمية (إيران أو تركيا) أو دولية غير إقليمية (كروسيا أو الصين).
الأرقام تشير إلى أن الإقبال على التسجيل في الجامعات الخاصة وغير الخاصة والمتمركزة بشكل عام في ضواحي المدن وفي الأرياف السورية انخفض على نحو لافت وكارثي هذا من تأثيرات وبركات «ثورة السواطير» «السورية» وتخيلوا معي عدد الطالبات السوريات أمهات وشريكات بناء مستقبل سورية التي كان يمكن أن يسجلن في جامعات نائية ومنعن من ذلك نتيجة الاضطرابات الأمنية الناجمة عن ثورة «الديمقراطيين الجدد» الحديثة.
و«أمية الثورة» بكل أشكالها وأهمها الأمية السياسية التي لا تعرف من السياسة إلا قتل البيدق لبيدق وتتجاهل اللعبة المخابراتية التي تستهدف سورية والوطن والشعب قبل النظام و«لا سوريتها» (أي وجود عناصر وأصابع غير سورية في دوافعها وأهدافها) تدعو إلى القلق الشديد الذي ينتاب بعض السوريين لأن العديد منهم أبدى الكثير من التخوف من «الثورة» وبدلا من مطالبتها الصادقة بالإصلاح بأن تتحول إلى قوة عمياء غاشمة تجرف أمامها كل شيء في الوطن في الوقت الذي يرى البعض الآخر أن هذا التحول قد حدث فعلا ومن الشهر الأول لها وأصبحت فعلا قوة غاشمة عمياء دمرت فيما دمرت الكثير من كبرياء الوطن ومن إنجازاته ومنها تلك الشعرة الضعيفة كشعرة معاوية التي كان يحافظ عليها السوريون بذكاء ويلعب عليها كثيراً في العلاقات السورية الغربية لما يخدم قدر الإمكان المصالح العربية والسورية ولكن الغرب وجد بها عذرا لإثبات أنه ومهما تجمّل بأكاذيب الديمقراطية (المرتبطة عضويا في جوهرها على الحوار لا الإكراه عبر التجويع والحصار) وحقوق الإنسان فلن يتخلى عن جوهره الاستعماري وعن محاباته لإسرائيل والتزامه بها. ويمكن قول الشيء نفسه عن العلاقات السورية العربية وخاصة السورية الخليجية ولكن الفرق هو أن دول الخليج لم تثبت زيف إدعاءاتها والتزامها بالديمقراطية وحقوق الإنسان لأنها بطريقة ما– وإن مغايرة في الشكل عن الغرب- مثل الغرب آخر من يحق له الحديث في هذا الموضوع ولكنها أثبتت تبعيتها العمياء والمطلقة لقوى الغرب على نحو مثير للسخرية والبكاء والضحك الأسود والزج بمقدار سواد ولزوجة نفطهم وعقولهم القرونوسطية.

بعض تجليات الأمية والجهل فيما يسمى «رجال الثورة»:
1) إن استقبال السفير الأميركي ورمي الزهور على سيارته في حماة (8 تموز) هو دليل صارخ إن لم يكن على «لا- وطنية» «رجال الثورة» فإنه دليل على حالة من «العمى» في البصر والبصيرة وكذلك رفع الأعلام الأميركية في بعض المظاهرات حتى وصلت إلى درجة استوجبت إدانتها من القوى التقدمية في سورية ولبنان ومنهم مثلا خالد حدادة أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني. (لا يمكن الجزم في تبرير ضعف التظاهر فيما جرى تسميته «بجمعة الحماية الدولية» على رفض من المتظاهرين بوعي وطني للتدخل الدولي لأن التظاهرات بشكل عام خفّ زخمها في المرحلة الأخيرة كما تشير بعض التقارير في حين أن الأرباب المشغلة لهذه التظاهرات من «الجزيرة» و«العبرية» وبعض ما يسمى بالتنسيقيات رفضوا الإقرار بضعف الزخم أصلا).
2) إحراق الأعلام الروسية والصينية بدلا من رفعها وتحيتها لأنها تمنع الغرب وأميركا من النفاذ من نافذة الأزمة السورية وعبر مجلس الأمن للعمل على تحقيق السيناريو العراقي أو الليبي على سورية تحقيقا لمطامح الغرب وإسرائيل في بلادنا بشكل عام وفي سورية بشكل خاص. فلو أن الرؤية سليمة عند المتظاهرين وعند محرضيهم وجب عليهم شكر روسيا والصين لأن خلافهم مع النظام لا ينبغي أن يكون على حساب أمن الوطن وحرية الوطن واستقلال الوطن وينبغي أن يكون لسان حالهم إن كانوا وطنيين يقول: «نحن في خلاف مع بعضنا كسوريين ولمصلحة وطننا سورية ولا نريد تدخلا من أعدائنا الذين ثبت عداؤهم لنا ولأمتنا في فلسطين والعراق ولبنان… الخ وشكرا لمن يمنع تدخلا من هؤلاء الأعداء. « وتجدر الإشارة هنا إلى أنه يجب التمييز من الناحية الأولى بين المعارضة الوطنية الرافضة للتدخل الأجنبي (والتي خرج أفراد منها يشكر روسيا والصين) وبين المعارضة الخائنة المتمثلة بمن يطالب بتدخل عسكري أو غير عسكري ومن ناحية ثانية بين المتظاهرين الذين لا علاقة لهم مباشرة أو غير مباشرة برجال المعارضة ولا أحد من الطرفين يمكنه ادعاء تمثيل الطرف الآخر.
3) ولو أن «الثورة» تعمل بروح إصلاحية وطنية حقيقة كان عليها أن تتفاعل بإيجابية مع كل حركة إصلاح (صغيرة أو كبيرة) تقوم بها الدولة وتعطي مؤشرات أنه مادام الإصلاح السياسي ماضياً «فنحن في بيوتنا ولما نجد توقف عجلة الإصلاح نخرج للشارع مرة ثانية ولكن التشرذم والهذيان الذي أصاب منظريها وإصرارهم على التظاهر والعنف والقتل لرجال الأمن والجيش وإكراه المدنيين الذين لم يوافقوا على سلوكهم والخروج معهم إلى المشاركة القصرية تحت التهديد والوعيد والعنف يثبت أولا «لا ديمقراطيتهم» ويثبت أيضاً أن وراء الأكمة ما وراءها وهو وجود أجندة أخرى تسير من الخارج وتنفذ من جهلاء ومغرري الداخل لا علاقة لهم بالإصلاح أبدا.
4) طبعا لا داعي إلى الإشارة أن تمركزها حول رموز دينية كانطلاقها من المساجد ويوم الجمعة تحديدا كركيزة لاستقطاب واللعب على مشاعر السواد الأعظم من السوريين الذين يغلب عليهم التدين السطحي الانفعالي غير القائم على وعي مدني سياسي يمكن أن يؤسس لثورة ديمقراطية مدنية حقيقية تؤسس معطيات لمجتمع ديمقراطية حقيقي يقوم فعلا على جميع أطياف المجتمع السوري بدلا من استخدام شعارات غطائية مؤقتة تخدم تطورات مرحلية سرعان ما تكشفت على أرض الواقع في طائفيتها وفي لا ديمقراطيتها وفي كثير من الأحيان حتى عن الحد الأدنى من لا وطنيتها!!!
5) لم تكن تسميات جمعهم (جمع «جمعة») تعكس روحا مدنية ولا حتى ديمقراطية فإذا لنا أن نستنكر كل الاستنكار ما سمي «جمعة الحماية الدولية» فكيف نستسيغ بأي شكل من الأشكال أسماء جمع تكرس الطائفية والمذهبية والعشائرية التي تتناقض تناقضاً مبدئياً وجوهرياً مع الديمقراطية والمدنية فجمعة «العشائر» سعت إلى تكريس الانتماء العشائري في الوقت الذي ناضلت أجيال من السوريين لتجاوز العشائرية وتجلياتها المحدثة عنها (من البداوة إلى الريف) وهي الطائفية (التي لم تعدم لها تسميات في جمعهم أيضا) في حين أننا نسعى إلى المدنية حيث سيادة القانون والدستور الوطني الجامع لكل من استظل اختيارا ووجدانا بسورية وطنا ومستقبلا لأجيال من السوريين من حقهم أن يعيشوا حياة أفضل وأكرم لهم ولإنسانيتهم ولثقافتهم المتوثبة نحو الحياة والبقاء التي ارتضوها لأنفسهم.
6) أحد طلابي في الجامعة قال في معرض نقاشنا عن أحداث اختراق سوريين وفلسطينيين الحد الفاصل بيننا وبين جولاننا المحتل إن المتظاهرين في منطقته يريدون الحرب على إسرائيل ولذلك خفت حدة التظاهرات في ذلك الأسبوع فقلت له إن طبيعة صراعنا مع إسرائيل ليست بهذه السهولة وإنه في وقتنا علينا أن نفهم أن «الممانعة السياسية» (*6) قد تكون أفضل ما يمكن لسورية أن تقوم به ضد إسرائيل فرفع حاجبيه استنكارا وقال «الناس بدها حرب شلون ما كانت تكون حتى ولو بدها تدمر البلد» فقلت له «يعني بدكن «هوشة عرب» لا تخطيط ولا تنظيم ولا تشغيل مخ ولا إستراتيجيات وهذا ما خسّرنا فلسطين وغيرها وأوقع فينا كل هذه النكسات والنكبات هو أننا بدنا «هوشة عرب» في حين أن انتصار حزب اللـه على إسرائيل (التي كانت تنتصر علينا دائماً بحسن التنظيم والتخطيط) في حرب تموز 2006 مثلا هو نتيجة تخطيط سياسي حكيم ومنضبط وخطط عسكرية واقعية وحرب نفسية إعلامية ذكية لم تكن أقل شأنا من العسكرية والسياسية فعاد الطالب ورفع حاجبيه استنكارا وكرر «الناس بدها حرب شلون ما كان…».

ضعف الرؤية المستقبلية والواقعية لطبيعة الصراع السوري الشامي (نسبة إلى بلاد الشام بما يتضمن سورية ولبنان وفلسطين) المقاوم مع العدو الإسرائيلي:
آ) قال لي أحد مناصري «الثورة» «صار لنا 7 أشهر في الثورة وصدر من قوانين إصلاحية أكثر مما يمكن انجازه في 10 سنوات وها هي إسرائيل لم تقم بالهجوم علينا أثناء ذلك فلماذا التذرع بتهديد إسرائيل؟» فقلت له أولا ليته كان التهديد العسكري الإسرائيلي فقط لهان الأمر ثانيا هل تعرف عن إسرائيل الغباء؟ إنها تعمل بالمثل القائل إذا كان عندك عشي فلماذا تزفر يديك؟ فها أنتم تقومون بما تريد إسرائيل أن تفعله بسورية: خربتم علاقات سورية بالعالم وأسأتم إلى سمعتها الدولية، قتل مئات الجنود السوريين، واغتيل جملة من المخترعين والعلماء والأطباء دمرت المراكز الحكومية وخلخلت البنية الاجتماعية للكثير من الأسر السورية… الخ فلماذا تقاطعكم إسرائيل عن عملكم وإن فعلت فهذا فقد يوحد تدخل إسرائيل الشعب السوري المغرر به وغير المغرر به (وربما حتى القلة القليلة من العملاء لن تكشف حقيقتها وسوف تتظاهر بدعم البلد ضد إسرائيل كما فعل بعض جماعة 14 آذار في حرب تموز) ولكنها أي إسرائيل تنتظر إضعافكم لفريستها ثم تنقض عليها».
فقال: ولكنها لن تجرؤ على اجتياح سورية بسبب الدرس الذي تلقته إسرائيل من الاجتياح الأميركي للعراق؟!
فقلت له «ربما» وينبغي عدم الرهان على ذلك (مادامت «آيباك» AIPAC الموجه الحقيقي لدفة السياسية الأميركية في الشرق الأوسط) فهي تستطيع تمرير الكثير من مخططاتها في بلادنا ولن يكون هناك رادع إذا كانت سورية ضعيفة ويستمر استنزافها حتى يأتي جورج بوش ثان من المحافظين الجدد (قد يكون بوب بوش شقيق جورج بوش والحاكم السابق لولاية فلوريدا الأميركية) ويفعل تماما ما فعله أخوه «المحافظ الجديد» وهكذا يتكرر السيناريو العراقي معنا في سورية ذلك السيناريو الذي لم تنته فصوله بعد حتى يومنا هذا فملا يزال العراقيون يستيقظون على انفجارات تهز كيانهم الإنساني والوطني وحتى الاجتماعي. إن من يعرف مكانة إسرائيل بالنسبة إلى المحافظين الجدد يعرف أنهم إن عادوا إلى البيت الأبيض (علما أنهم وعبر الحزب الجمهوري لا يزالون يمسكون بتلابيب عدة مؤسسات من السلطة الأميركية) قد لا يتأخرون عن غزو جديد في منطقتنا ولو لا سمح اللـه حدث السيناريو العراقي في سورية فإن هذا يطيل في عمر إسرائيل أكثر من 100 سنة إضافية على حين أنه وقبل الأزمة السورية تحدث السيد حسن نصر اللـه وهو صاحب «الوعد الصادق» عن بدء العد التنازلي لبقاء إسرائيل في فلسطين وكل من يصدّق «نصر الله» ووافقه في الرؤية يرى أن مشروع المقاومة الممتدة من بيروت حزب اللـه وغزة حماس حتى إيران عبر سورية يرى أن سورية هي العامود الفقري لمشروع المقاومة وكان يرى زوال إسرائيل ممكناً إلا إذا كسر العمود الفقري للمشروع وهكذا خرج منظرو «الثورة السورية» بفكرة كسر العامود الفقري لما هم وأسيادهم ممن يسمون «جبهة الاعتدال العربي» (الأحرى أن يسموا جبهة العمالة العربية) يسمونه كسر العامود الفقري «للهلال الشيعي» وهذا ما سمعته شخصياً من أحد متظاهري «داريا» الذي قال: «نريد إنقاذ البلد من هذا الهلال وكسر عموده الفقري» فقلت له: «تريد كسر بلدك؟» فقال «أن نكسر العامود الفقري لهذا الهلال، ما بعرف هيك اسمعتون عم بقولو!!».
ب) لا بد لمنظري أي ثورة أن يستوعبوا الظروف والمرحلة التاريخية وتحدياتها كي يؤسسوا لنظرة مستقبلية تستشرف ما يطمحون لتحقيقه من أهداف على أرض الواقع ويتجاوبون مع تلك التحديات بأجوبة فعلية حقيقية ملموسة تتجاوز قدرة الواقع الراهن الذي يثورون عليه فهل استوعب منظرو «الثورة» المرحلة التاريخية لكي يبنوا عليها؟
بعد سقوط الاتحاد السوفييتي واختلال موازين القوى في العالم لمصلحة أميركا عدونا «غير المباشر» (الكثير من شعوبنا تراه عدواً أكثر من مباشر) جرت أحداث تاريخية أعادت تشكيل العالم على نحو خطر جداً لثقافتنا ووجودنا الحضاري وحتى الإنساني. فخلال هذه 11 سنة من تولي الرئيس بشار الأسد للسلطة في سورية جرت كوارث وأحداث هزت العالم من 11 أيلول واستباحة أميركا ليس لمنطقتنا فقط بل للعالم التي أفزعت حتى الدول الكبرى مثل فرنسا وروسيا وجعلتهم يهرولون إلى واشنطون لكسب رضا أميركا وتجنب أذاها ثم احتلال العراق وتهديدنا بمصير مماثل إذا لم نخضع لهم واستعار التهديدات المباشرة على ألسنة كبار المحافظين الجدد مثل « بول وولفويتز» و«دونالد رامسفيلد» وغيرهما واغتيالات رجال حماس في دمشق أكثر من 3 شخصيات مناضلة (إضافة إلى عملية «عين الصاحب» وما صاحبها من تهديدات شارون ووضعه خريطة استهداف خطرة لمواقع وشخصيات في دمشق أمام انكشافنا الجوي آنذاك لأسباب تاريخية متعلقة بـ«كامب ديفيد» ولا تقل كارثية عنها) ثم اتهامنا باغتيال الحريري التي حيكت خيوطها بلؤم شديد وكادت تتحول إلى ما يماثل سيناريو أسلحة الدمار الشامل للعراق ثم حرب 2006 ثم حرب أميركا علينا واستفزازاتها على طول الحدود العراقية واختراق حدودنا حتى مجزرة «البوكمال» 2008 لأسباب انتخابية أميركية (*7) واغتيال عماد مغنية وتفجيرات واختراقات أمنية فظيعة هنا في قلب دمشق واتهامنا بتطوير وحيازة أسلحة دمار شامل وضرب موقع عسكري بتواطؤ من تركيا في دير الزور وتأمر أميركا وإسرائيل لاستباحة سيادتنا الوطنية عبر منظمة الطاقة الذرة (IAEA) ثم حرب 2008-2009 على حماس والضغط علينا لطرد المنظمات الفلسطينية من سورية مع قحط وجفاف أصاب مناطق الشمال الشرقي من سورية وحرب مياه وغيرها وغيرها حتى انشغال الإدارة السورية في العمل على استقرار وانتظام الوضع في لبنان بما يسمح لحزب اللـه (الحليف الإستراتيجي) العودة لبناء قدراته أفضل مما كانت قبل حرب تموز رغم مؤامرة السعودية وحزب الحريري وجنبلاط على حزب اللـه وسورية وغيرها من التحديات التي أقلها، ربما، التعامل مع تحد تمثل بأكثر من 1.5 مليون لاجئ عراقي قدموا إلى سورية بعد احتلال بلادهم وأثرت هذه الاستضافة الاقتصاد السوري الذي كان يعاني تخبطات أقلها ناجمة عن تأمر الغرب وأميركا بشكل خاص التي سنت قوانينها لما سمي «قانون محاسبة سورية» (8*) إلى حصارنا اقتصادياً بدء من تعطيل صيانة أو شراء طائرات الخطوط الجوية السورية إلى معاقبة الشركات التي تستثمر في سورية أو حتى تنقل لها أي تقنيات حتى المتوسطة المستوى التي قد تحوزها أي دولة صغيرة تدور في فلك أميركا إلى تخبطات ناجمة عن بنية موروثة عن النهج الاقتصادي والإداري السابق في سورية المستند إلى الاشتراكية المعدلة وطنياً فكان الإصلاح إما أن يبدأ اقتصادياً ثم يتبعه الإصلاح السياسي وإما العكس وأمام عدم الاستقرار السياسي لمنطقتنا والاستهداف المستمر لسورية بسبب الأوضاع التي جرى إعدادها خصيصاً لسورية (كما لخصتها في السطور السابقة) أو التي جرت في خضم المجال الحيوي السوري المؤثر في سورية مباشرة أو غير المباشر مثل حرب شارون على الضفة الغربية ومحاصرة ياسر عرفات 2002 ثم مجزرة جنين واغتيال ياسر عرفات وما استتبعها من نتائج واضطرابات خطرة في لبنان قبل وبعد اغتيال الحريري كل ذلك حتم البدء بالاقتصادي بالتوازي مع العمل على إفشال المؤامرات المتتالية التي خاضتها سورية منفردة وباقتدار قلّ نظيره في التاريخ. كل ذلك لم أسرده بدافع الالتفاف على ضرورة وحتمية الإصلاح السياسي الذي تحتاج إليه سورية ولكني قصدت أن أكون قدر الإمكان موضوعياً في عملية النظر إلى المجريات التي مرت بها بلدنا سورية وضرورة الإنصاف والموضوعية حولها. تكمن المشكلة في الأزمة السورية الراهنة أن ذاكرة الكثير من «مثقفي وفناني» سورية والكثير الكثير من رجال المعارضة ضعيفة وربما ضعيفة جداً وإذا كان الحال لطبقة نخبة البلد من ضعف الذاكرة فكيف يكون الحال في السواد الأعظم من المتظاهرين الذين في مجملهم منسلخين تماماً حتى عن رجال المعارضة الوطنية (تميزاً عمن يطلب التدخل الخارجي والذين هم خارج نطاق الحديث عنهم هنا) وما يحرّكهم ويسيّرهم جملة من الأبواق الإعلامية التي تشكل الأداة الطويلة لعملاء أميركا في المنطقة من «الجزيرة» و«العربية» وأخواتها وجملة من الرجال الموجودين على الأرض الذين في مجملهم إما رجالات استخبارات معادية وإما رجال مغرر بهم بالمال أو بالأفكار المشوهة عن الدين والوطنية وكيفية القيام بالواجب لهما وبهما. وليت كان المتظاهرون يأتمرون برجال من المعارضة الوطنية لكانت حلت الأزمة من وقت طويل لأنه عندئذ اجتمعت الإرادة الوطنية في الإصلاح بين الدولة والمعارضة وجرت إصلاحات أكبر بكثير مما يحدث حالياً على أرض الواقع أو على أرضية البنية القانونية والتشريعية لما يمكن اعتباره ولادة جديدة للجمهورية العربية السورية الثالثة. إن غياب الذاكرة عن الماضي القريب وغياب الموضوعية في الرؤية لها وتقيمها لا يشكل خطورة فقط على اللحظة الراهنة في معطيات الأزمة السورية بل يتعداها إلى الرؤية للمستقبل لأن المستقبل لا يمكنه التشكل على نحو صحي وسليم إلا انطلاقاً من فهم وتصالح مع التاريخ المعاصر والبعيد وفهم طبيعة تحدياته وإلا تكررت الأخطاء واستحضرت الأزمات على نحو متكرر لأن الديمقراطية لا تقوم إلا على الوعي الإنساني القائم على المسؤولية المجتمعية التي لا يمكن أن تنسجم مع أمية (بكل أشكالها وأهمها الأمية السياسية) مستشرية بين صفوف معظم المتظاهرين (لو لم يكونوا كذلك لوحدوا جهودهم نحو الإصلاح وليس وراء شعارات منسلخة تماماً عن إستراتيجية دور ومكانة سورية وعن أرض الواقع السوري ولا تخدمه أبداً) ولما انتهت إلى من وصفّهم المعارض السوري هيثم المناع بجماعة «فليأت الشيطان».

مدرس جامعي.
ملاحظات إضافية:
1-) «ثورة السواطير»: هي عبارة نسبة إلى وجود السواطير في أيدي عدد من المتظاهرين استخدموها في التلويح والهتافات في احتجاجاتهم «السلمية» في سورية. لقد أسأت هذه السواطير ليس فقط إلى «سلمية» الاحتجاجات بل كرست الصورة النمطية التي بناها الغرب عن ثقافتنا وعن العرب بشكل عام فكلما جرى نقاش مع أي غربي عن الثقافة العربية والإسلامية استحضر الغربي السواطير وصور الذبح التي مارسها الأصوليون في الجزائر ضد أبناء وطنهم وكذلك فعل بعضهم في الإشارة إلى بعض «الثوار» في تونس ومصر أما في سورية فقد عجزت وكالات الأنباء الغربية عن تزويد أي غربي بإثبات أي حالة استخدام لساطور ما نظرا لما يعرف عن وسائل إعلام الغرب من حبّ شديد لسورية ولشعبها. وإذا كانت السواطير الحديدية خطيرة جداً وبشعة بشاعة قتل إنسان أو مجموعة من الأفراد فإن السواطير الفكرية هي أكثر خطورة لأنها قد تتسبب بقتل شعب جسديا وروحيا وثقافيا وتبرر ظلاميات كتلك التي يعيشها الشعب الأفغاني. أحد نقاط جهل أو ساطورية «رجال الثورة» إنهم حتى الآن لم يفهموا أن كل ما يجري في سورية هي لعبة مخابراتية بامتياز (يشترك فيها عربان وغربان من السعودية وقطر وما يسمى بمحور الاعتدال سدنة «البيت الأبيض» بدلا من البيت العتيق) على كل من سورية وإيران وحزب اللـه ولم يميزوا بين خيوط المؤامرة المخابراتية وبين مطالب الإصلاح السياسي الذي لا يختلف على ضرورته وحتمية حدوثه أي سوري على الإطلاق ولم يروا وضوح الباس المؤامرة بمطالب الإصلاح المجمع عليها وطنيا.
2-) «إن العداء لأميركا خطير ولكن صداقتها كارثية».
«Being America’s enemy is dangerous America’s friendship is disastrous».
3-) «دارونية نظرية المؤامرة» المفارقة أنك تسمعها من السلفيين يردونها بببغائية في معرض نقدهم لتعدد أشكال التآمر في الأزمة السورية.
4-) خرتتة:نسبة إلى الخَرْتيت حيوان ضخم جداً، وهو واحد من أكبر المخلوقات الأرضية الموجودة. ويطلق عليه أيضاً الكركدن ووحيد القرن. وجسمه هائل صلد، وسيقانها قصيرة، قوية وممتلئة. وقد استخدم المسرحي يوجين يونسكو وهو كاتب مسرحي فرنسي روماني الأصل كتب مسرح العبث ومن أشهر مسرحياته «الخرتيت» التي تتحول فيها شخصيات المسرحية إلى خراتيت نتيجة هيمنة أفكار عليها وتأخذ بتدمير مدينتها وتدمير العلاقات الإنسانية بينها. انظر مقالة في صحيفة «الوطن» بعنوان: «حصان طروادة الأخطر والخراتيت»
http://www. alwatan. sy/dindex. php?idn=102903
5-) «تشبيحات» أصبح مصطلح «التشبيح» من أكثر المصطلحات مدعاة إثارة للضحك والسخرية لدرجة أنه أصبح كل ما يقوم به أي سوري أو حتى غير سوري لا يتفق مع «ثورة السواطير» أصبح «تشبيحاً» حتى تصريحات البطرك الراعي وحتى قيام سيدات لبنانيات بزيارة دعم لسورية أصبح «تشبيحاً» وحتى رثاء مفتي الجمهورية المكلوم لولده الشهيد صار «تشبيحاً» بل إن «الشبيحة» السوريين وصلوا إلى ساحات فرنسا وألمانيا وغيرها وكذلك تصريحات البطل هيلاريون كابوتشي والأب عطا اللـه حنا ورسائل الأب الياس زحلاوي المفتوحة ولن أستغرب أن يصل التشبيح السوري المزعوم إلى المريخ أو زحل أما تدمير القطارات وتخريب الممتلكات الوطنية وتفجير أنابيب النفط ومنع الأطفال عن الذهاب إلى مدارسهم والتمثيل بأجساد الشهداء فهو بنظر رجال «ثورة السواطير» أعمال «ثورية» وليست تشبيحاً أبداً.
6-) راجع مقالة في «الوطن» بعنوان: «لا تنظر خلفك بغضب بل إلى الأمام بأمل» وهي محاولة توصيف طبيعة الصراع مع إسرائيل.
http://alwatan. sy/dindex. php?idn=104519
7-) البوكمال 2008 لأسباب انتخابية أميركية. انظر مقالة لي بالإنكليزية بعنوان: «غياب العدالة سبب كل شر» وفيها استعرضت المحاباة المجحفة لإسرائيل على حساب العرب والسوريين ومحاولات استفزاز سورية والتآمر عليها لجرها إلى حرب تقوي الموقف الانتخابي لجون ماكين الجمهوري وتعاقب سورية على موقفها المقاوم من غزو العراق وتستنزفها للقضاء على دورها الإقليمي.
 

السابق
إبرة وهاب «المغبغبي» وعشاء جنبلاط الباريسي
التالي
هل سيفعلها الإيرانيون في موسم الحج؟