الانتفاضات والحيرتان

 خلقت الانتفاضات العربيّة، لا سيّما منها السوريّة، حائرين اثنين وحيرتين اثنتين.

صاحب الحيرة الأولى تدور حيرته حيال التوفيق بين معنى ألفَه للثورة ومعنى آخر ألفه للقوميّة أو «مناهضة الإمبرياليّة». فهو مع الثورة لأنّه لا يستطيع أن يكون ضدّ الثورة، ما دامت الأخيرة، في عرفه، جوهراً عظيماً بذاته. إلاّ أنّه، بالقدر نفسه، لا يتخيّل الثورة إلاّ مصادمة لـ «العدوّ القوميّ»، الصهيونيّ و»الإمبرياليّ». على هذا نشأ وترعرع.

والانتفاضات هذه لم تكن هكذا، وليست مرشّحة أن تصير هكذا: فهي صادمت حكّاماً محليّين من أبناء جلدتنا. وحتّى حين يكون هؤلاء الحكّام متّهمين بـ «العمالة» لـ «الإمبرياليّة» والصهيونيّة، فهذا ما لا يندرج في المأخذ البارز عليهم من قبل الانتفاضات. أبعد من ذلك، يلوح كأنّ تلك الأخيرة، وهي سلميّة، تخوض معاركها التي ستكون آخر المعارك. فهي مهجوسة بالرسوّ على مجتمعات حرّة ومستقرّة، بمعزل عن فهمها للحريّة والاستقرار، أكثر ممّا هي مسكونة باستئناف المعارك وفتح الجبهات هنا وهناك. فناس الانتفاضات ليسوا متلهّفين للقتال، خصوصاً أنّ هذه اللهفة، فعليّةً كانت أم كلاميّةً، هي عِدّة الأنظمة العسكريّة التي تنقضّ عليها الانتفاضات. وأخيراً، فإنّ استهداف النظام السوريّ، واستطراداً المقاومات التي تحالفه في المشرق، يضع الانتفاضات في موضع يصعب تبريره تبعاً للوعي الثوريّ القديم الذي يغفو ويصحو على «دعم المقاومة». أمّا النموذج الليبيّ فيحسم في الاتّجاه الآخر تماماً، وهو ارتباط النصر على النظام بدور صريح لـ «العدوّ القوميّ».

ثاني الحائرَين تدور حيرته حول التوفيق بين تأييده الانتفاضات العربيّة وبين تقدّميّته، أي ولائه للتنوير والعلمنة والإصلاح الدينيّ والتسامح.

فلا شكّ في أنّ الانتفاضات كلّها تقدّميّة من حيث أنّها تزيح الاستبداد وتفتح احتمالاً للحرّيّة. إلاّ أنّ الطريق إلى ذلك المطاف الأخير سوف تقطعه مجتمعات مرضوضة تمّ تفتيتها وتفتيت وعيها جيلاً بعد جيل، فيما كانت الأنظمة الاستبداديّة آخر الأثقال التي رزحت على صدرها وأثقلها.

وحيال هذه الطريق الالتفافيّة الطويلة وما قد تسجّله من كبت يستحيل عفناً، وربّما من عنف ودم ومراجعة خرائط وحدود، لن تكون الأجندة التقدّميّة والعلمانيّة طاغية، ولا حتّى متصدّرة. وأغلب الظنّ أنّ أجندات مناهضة للتقدّم ستشغل مساحات في ساحات الواقع والأفكار، مساحاتٍ لا يضيّقها إلاّ المدى الذي سيُتاح للدور والتأثير الغربيّين.

هكذا، وفي هذه الغضون، سوف تتنامى تلك الحيرة، وقد تغدو عند البعض استلاباً. لهذا تحلّ الجفلة في البيئة هذه، وتسطع الأسئلة والتساؤلات، فيما الانتفاضات تحضّ، من حيث المبدأ، على الإقدام الحاسم والمتفائل، وعلى طرد التردّد أيّاً كان، وإعلاء الجواب قاطعاً كحدّ السيف.

بيد أنّ الفارق بين الحيرتين هاتين أنّ الأولى، حيرة القوميّ، تترافق مع إغلاق دائرة كبيرة من دوائر الماضي الذي يحتضر، فيما تترافق الثانية، حيرة التقدّميّ، مع فتح دائرة كبيرة للمستقبل الذي يأتي: يأتي متعثّراً، متناقضاً، مختلطاً، إلاّ أنّه يأتي، وبمجيئه يُفتتح التاريخ الحيّ ويتولّى البشر المسؤوليّة عن حياتهم وعن أفعالهم. 

السابق
الرئيس أوباما وإسرائيل
التالي
الفتوحات الإيرانية تنطلق!