عندما تلتقي المصالح تختلف الرؤى!

بين سندان المطالب العمالية المُحقّة ومطرقة الأزمة الاقتصادية الخانقة، يجد اللبناني نفسه عالقاً في متاهات المناورات السياسية والمعاناة الحياتية، يفشل في الخروج منها رابحاً، حيث أضحت أفضل الحلول أمرّها!
لا خلاف على أن المعالجة التي تمّت لهذا الملف الدقيق هي الأضعف والأكثر تسرعاً، وذلك بحجة تفادي النزول إلى الشارع، حيث تعدّدت التقارير حول نوايا مبيّتة لقطع الطرقات وتعطيل البلاد وإثارة الفوضى، ولا أحد يُمكن أن يتكهّن بالخواتيم التي قد تؤول إليها هذه الحركة، خاصة في بلاد تَمرَّس أطراف الحكم فيها على تسييس أسخف القضايا ووضعها تحت مجهر المغالاة البعيدة عن الواقعية· فما بالك إذا كانت القضية حياتية ملحّة تمسّ كل مواطن، مهما كان انتماؤه أو عمله أو طبقته الاجتماعية·

لقد نجحت الحكومة في إلغاء الإضراب المقرّر ليوم الأربعاء 12 ت1، وأعلنت عن إتفاق على زيادة الأجور لفئة معيّنة (لمَن لا يتجاوز دخلهم المليون وثمانمائة ألف ليرة)·· فإذا بكلام الليل يمحوه النهار، والإضراب يُعلن الأربعاء 19 ت1، ويصحو كل فريق ليؤكّد رفضه للتسوية، محاولاً تحصيل المزيد: فلا الهيئات الإقتصادية موافقة على هذا التعديل، في ظل الركود الاقتصادي وغياب السياسات الداعمة للصناعات والمشاريع الإنتاجية المحلية، ولا الاتحاد العمالي راضٍ بما أنه قرّر المضي بهذه التسوية على أساس خُذ ثم طالب· وتبقى الخيبة الكبرى للمواطن، وذلك لانعدام الرؤية التصحيحية وغياب البنية الأساسية لاقتصاديات سليمة مما يعني استمرار الهدر لقدرات الدولة ونهب مداخيلها· ففي حسابات بسيطة يُجريها لك البقّال أمام منزلك· تجد أنه لو ضبطت الدولة جباية الكهرباء (بانتظار تحقيق <المشروع الحلم> الذي وعد به باسيل) وتم تأمين ساعات كهرباء أكثر، لانخفض المصروف بمعدل 100 دولار لكل منزل توفيراً لتكلفة المازوت، واشتراكات المولّدات التي يضطر لها اللبناني·

ولو كانت خطة تأمين المياه قد وضعت على رأس أولويات الدولة، لوفّرت ما يقارب الخمسين دولاراً، وهي تكلفة كل منزل لتأمين مياه الشفة البديلة·· أما قطاع النقل العام، فحدِّث ولا حرج حول أهميته من الناحية الاقتصادية والبيئية والحضارية، وتمادي الحكومات المتعاقبة على إهماله أو نهبه وتسييبه· ففي حين يستخدم اللبناني النقل في الخارج بشكل طبيعي ومنظّم، تجد نفسك في بلدك تزاحم سائقي النقل العام وفي حالة عداء دائم معهم بسبب غياب نظام السير المناسب لهم وفقدان الذهنية المنضبطة لديهم·· فلا الحافلة مجهّزة بمعايير السلامة العامة، بدءاً من إشارة الضوء وصولاً الى التلوّث الهوائي القاتل مروراً بالقيادة المتهوّرة وغير المسؤولة، ولا اللبناني محفّّز حتى اليوم لاعتماد هذا القطاع، الذي يمكن أن يوفّر ثمن الوقود الجنوني وتلوّث البيئة المتزايد·

أما النقطة الأخيرة والأهم، فهي مراقبة غلاء المعيشة وارتفاع أسعار المواد الغذائية خاصةً، والاستهلاكية عامةً، دون حسيب أو رقيب، حيث يتم سداد الفواتير المتزايدة من حسابات المواطن المتناقصة·

وهكذا في حساب بسيط، لو لعبت الدولة دورها بجدّية أكثر، وأحكمت الإمساك بزمام المفاصل الإقتصادية، وقاومت الإبتزاز السياسي الذي يستثمر المواضيع الحياتية لغايات ضيّقة، لتمكّنت من توفير بعض المصاريف على اللبناني عبر تحسين مستوى الخدمات، وهي بديهية، ولكانت دراسة تعديل الأجور جاءت ضمن خطة شاملة ومتأنية لتفعيل الاستثمارات والإنماء الاقتصادي، ومحافظةً في آن واحد على أرباب العمل الذين يواجهون الأزمة الاقتصادية العالمية الخانقة، ومحصّلة شروطا أفضل للطبقة العاملة، التي يرتبط مصيرها ومصلحتها بمصير ومصالح الهيئات الاقتصادية، والعكس صحيح!

ولكن·· على من تقرأ مزاميرك···  

السابق
الثورات العربية وكشف المستور
التالي
السفير: نار التمويل تقترب … ولا موّال حكومياً موحداً للأجور