نكسة لثورة مصر

اذا لم يشعر الأقباط أن الثورة المصرية قد حررتهم بالكامل من قرون من الخوف والظلم، تصبح الثورة مجرد انقلاب على نظام فاسد، نجح في إسقاط رموزه لكنه لم يصل الى حد الإطاحة بمفاهيمه.
هذا العنوان للثورة في مصر ليس طارئاً، ولا هو مفتعل. هو تحد حقيقي طرح منذ اللحظة الاولى للإعلان عن ان الجيل المصري الشاب يريد اقامة دولة مدنية معاصرة تقوم على العدل بين جميع مكونات المجتمع، وتؤسس الجمهورية الثانية على قواعد وقوانين عصرية تشبه تلك التي أرسيت عليها دول الغرب الاوروبي كافة، وتستوحي تجربة الشرق الاوروبي الذي اقام ديموقراطيات مستقرة على انقاض الحقبة السوفياتية الاشتراكية، وكان ولا يزال مصدر إلهام خفي للربيع العربي.
وهو ايضا اختبار حاسم للثورة المصرية، التي ساهمت في علاج الأقباط من عقدة الاقلية المضطهدة واحيانا المنبوذة، وأشركتهم في تحركاتها ونشاطاتها، واستدعتهم للتأكيد على ثنائية الهوية الوطنية لمصر، وافسحت لهم المجال اكثر من اي وقت في التاريخ المصري الحديث والقديم للتعبير عن انفسهم وعن اختلافهم، وخفضت الى حد كبير حجم الاعتداءات على كنائسهم ومساكنهم.. من دون ان يكون كل ذلك بقرار اتخذته المجالس القيادية للثوار المصريين، بل بمجرد تحرر المجتمع من فضائح الماضي وعيوبه. فكان القبطي حاضراً بشكل طبيعي في ميدان التحرير، وكان المسلم حريصاً على تسليط الضوء على حضوره، الى حد المبالغة احياناً. وكان انتظام الاقباط بعد الثورة في مؤسسات سياسية واعلامية ظاهرة صحية. وكان شارع ماسبيرو علامة بارزة في تجرؤ الاقباط المستفيدين من مناخ الحرية على التظاهر وحدهم لرفع مطالبهم ومظالمهم الخاصة. مع العلم ان تلك الجرأة كانت ولا تزال تحسب في مصلحة الثورة وضدها في آن واحد، لانه كان من المفترض ان يظل ميدان التحرير القريب من ماسبيرو هو المكان المعبر عن الإجماع الوطني الذي يفرض الاهتمام بالهم القبطي من داخل هذا الإجماع، وبما يعبر عن ارتقاء لغة الغالبية وثقافتها وسلوكها، كما يعكس اطمئنان الاقلية الى انها لم تعد تنتمي الى المعازل المحددة منذ ما قبل قيام الجمهورية الاولى.

انفجار الغضب القبطي في شارع ماسبيرو امس على هذا النحو الدموي المؤلم، نكسة كبرى للثورة المصرية ووعدها الوطني الذي أتاح للأقباط التظاهر علناً بصلبانهم وشعاراتهم في وسط القاهرة، لكنه لم يحاصر ولم يزجر الاسلاميين المتخلفين الذين هدموا قبل اسبوعين كنيسة في اسوان بحجة عدم الترخيص او رفع الصليب على مدخلها، وأحرقوا المنازل والمحال المجاورة لها.. وما زال يتسامح مع ذلك السلوك المهين للإسلام والمسلمين، بذريعة احتواء سلوكيات ومؤسسات اسلامية اشد خطورة على الاجتماع المصري كله.
لا معنى للثورة المصرية اذا خرج منها الأقباط واذا دخل عليها الاسلاميون المتشددون، واذا صارت المسألة الطائفية الموروثة منذ آلاف السنين طاغية على كل ما عداها من مسائل تتصل بتطوير وتحديث الوطن المصري ورفع شأن «الأمة المصرية».. حتى يرتفع شأن العرب والمسلمين جميعاً.  

السابق
لا تمويل للمحكمة والغليان السياسي آتٍ
التالي
نقولا: ملاحقة الإرهابيين على الحدود بين سوريا ولبنان