رؤساء·· وإرتباكات

قبل أن يفاجئنا أخواننا أقباط مصر بما لا ترتاح له النفوس، خصوصاً أن <إنتفاضتهم> غير المستحبة ونكاد نقول المبغوضة وبالذات لتزامن حدوثها مع أيام الذكرى الثامنة والثلاثين للنصر التاريخي على إسرائيل، كان المشهد العربي – الدولي الراهن، يعيش حالات كثيرة تتسم بالتناقض والإرتباك، إلاَّ أن ما يلفت الإنتباه في هذه الحالات ما يتعلق بحالة رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي ورئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان والرئيس الأميركي باراك أوباما والرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف·
الرؤساء الأربعة يعيشون حالة من الإرتباك لا مثيل لها سببها أن كفة المنطق غير متساوية مع كفة واقع الحال، أو إن كفة الهوى السياسي غير متساوية مع كفة الضمير الحي، ومن أجل ذلك فإن مواقف الرؤساء الأربعة منقوصة المصداقية بنسبة ملحوظة·

في حالة الرئيس ميقاتي فإن الضمير الحي يفرض عليه أن يلتزم بما هو واجب الإلتزام الوطني وليس خدمة يؤديها لعائلات ما تزال تعيش في سواد الفجيعة الناشئة عن إغتيالات كان يمكن ان يصيب أحدها الرئيس ميقاتي نفسه لو أنه في ذلك الزمن كان صاحب موقف سياسي شبيه بالموقف الذي دفع الرئيس رفيق الحريري وكوكبة من رموز العمل السياسي حياتهم ثمناً له· لكن الذي نلاحظه في موقف الرئيس ميقاتي أن الرجل إما يخشى أن تكون رئاسته، وربما حياته لا قدَّر الله، هي ثمن تلبية الواجب الضميري، أو أن تكون سمعته وسط قومه ووسط المجتمع الدولي والعربي هي الثمن· وفي الحالتين ستكون مصالحه كرجل أعمال في دائرة الخطر جنباً إلى جنب مع آخرين شركاء له في هذه المصالح· وإذا جاز النصْح فإن إبتعاد الرئيس ميقاتي عن الخطرين طوعاً، خطر عدم الإلتزام بما هو مطلوب منه عربياً ودولياً وضميرياً، وخطر التسليم بإتخاذ الموقف المعاكس مقابل البقاء رئيساً للحكومة، هو الأسلم، فعلى الأقل· وهو الذي جرّب الترؤس مرتين· يؤكد أنه وسطي بالفعل وأنه الشهيد الحي لـ <الوسطية>·

وفي حالة الزعيم التركي أردوغان فإن طمع الرجل، أو طموحه لإنبعاث المجد الامبراطوري العثماني، جعله يفقد الدور المأمول منه كوسيط نزيه في الأزمة السورية·فهو مع النظام البشَّاري الصديق ومع المعارضة في الوقت نفسه· يُمسك بشعرة معاوية بيمناه ويسراه· لا يقطع مع النظام ولا يوسِّع دائرة التعاطف مع المعارضة· وما نقصده بالطمع وهو مزدوج ان أردوغان يساير أميركا ودول أوروبا في موقفها العدائي من النظام السوري على أساس أن هذه المسايرة تسهِّل أمْر ضم تركيا إلى الإتحاد الاوروبي مع ان هذه الأمنية، على نحو ما يمكن قراءته في مواقف الاوروبيين ومشاعرهم، غير قابلة للإستجابة· وبسبب الطمع أيضاً يتصرف على أساس أن الفراغ الاقليمي عميق ويمكنه بالإسلامية الأردوغانية ملء هذا الفراغ قبل ان تسبقه ايران إلى ذلك إن هي استطاعت بسبب الطمع حيناً وأيضاً يتصرف على أساس أنه ليس ضد النظام البشَّاري بالمطلق وليس مع المعارضة إلى أبعد الحدود، فإذا أمكن الرئيس بشَّار تجاوْز الأزمة يستطيع أردوغان القول له إنني لم اتصرف معك إلى حد زلزلة النظام· وإذا سارت الأمور في إتجاه فوز المعارضة فإنه يستطيع القول لأركانها إنني كنت المضيف الكريم مع الذين لجأوا وأيضاً مع رموز الحراك السياسي والحزبي الذين نشطوا من أجل بناء الكيان المعارض· وإذا جاز النصْح فإن ما هو أكرم وأفضل للزعيم التركي الذي إتسم موقفه بالطمع هو أن يتصرف بالفعل كوسيط منَّزه عن الأطماع وبذلك يقال عنه إنه كان جاراً ومصلحاً ساعد في إنقاذ الجار الشقيق من كبوة وأوقف بهذه المساعدة النزف الدموي الذي سيستقي المزيد من الأحقاد والكراهية مستقبلاً· والتوسط النزيه يمكن لأن الأزمة في سوريا ما زالت غير محسومة داخلياً ودولياً لأن طرفيْها، النظام والمعارضة، لا يتراجعان، ومرشحة لأن تنتهي كما إنتهت إليها مواجهة النظام في ايران مع المعارضة التي ما لبثت ان توقفت لمصلحة النظام، أو تتواصل على نحو ما هي عليه المواجهة، في اليمن والمستمرة منذ تسعة اشهر·

 
وفي حالة الرئيس أوباما، فإن الرجل الذي وعد بالحل التاريخي للصراع العربي – الإسرائيلي إنطلاقاً من إنهاء النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي وذلك بالمساعدة على تحقيق صيغة الدولتين وفي هذه السنة التي كانت سنة <الربيع العربي>، بدا في الوقت المأمول فيه تنفيذ الوعد، يتذبذب حيث يقول شيئاً ويفعل شيئاً آخر واضعاً كرام القوم العرب وبالذات الملك عبد الله بن عبد العزيز أمام شعور بالصدمة من هذا الرئيس الذي كان يعوَّل عليه لوضع مبادرة السلام العربية موضع التنفيذ وفي منأى عن التهديدات بإستعمال <الفيتو> عند التصويت على العضوية الكاملة لفلسطين· والذي يجعل الرئيس أوباما يفعل ذلك هو أنه في معرض المفاضلة بين أن يكون صادق الوعد وبذلك يدخل التاريخ وبين أن يكون متنكراً لما وعد به ممالئاً لإسرائيل من أجل تجديد الولاية الرئاسية، فإنه على ما يبدو يرى أن عصفور التجديد باليد أضمن من دخول التاريخ من الباب الموصد الذي هو باب وضْع نهاية متوازنة للصراع العربي – الإسرائيلي بقيام دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشرقية· وإذا جاز النصْح فإن تنفيذ الوعد أكرم خصوصاً أن عدم التنفيذ لا يعني انه سيحصل على تجديد الولاية الرئاسية ذلك ان <اللوبي> اليهودي حيث وُجد لا تعنيه المبدئية في شيء· وبذلك تصبح حالة باراك أوباما مثل حال الذي خسر الدنيا وثقة خادم الحرمين الشريفيْن عبد الله بن عبد العزيز من دون أن يربح الآخرة، ورضى <ايباك> عنه·

والرئيس أوباما في ذلك يلتقي مع نظيره الروسي ميدفيديف الذي يظن ان <الفيتو> الذي إستخدمه (ومعه الرفيق اللدود الصين) ضد مشروع القانون الأميركي – الأطلسي المتعلق بالتطورات السورية سيمكِّن روسيا من تثبيت القدميْن في سوريا بعد خروج النظام البشَّاري سالماً من الأزمة، مع أن واقع الحال يؤكد أن هذا الخروج سيكون مدفوع الثمن ولمصلحة أميركا والأطالسة· وسيحصل مع الرئيس بشَّار ما سبق وحصل مع الرئيس معمر القذافي الذي ظنَّ ان ما فعله مع روسيا وأبرمه من صفقات معها سيجعل زعامتها الثنائية ميدفيديف – بوتين تنقذه وإن بالتصويت· ولكن روسيا لزمت الصمت المريب تاركة الأطالسة يغتصبون ليبيا· ومن هنا، وإذا جاز النصْح، فإن أفضل ما يمكن ان تفعله روسيا إستدراكاً هو وبالتعاون مع تركيا وايران الدعوة إلى طاولة حوار في رحاب الكرملين بين مَن يمثِّل الرئيس بشَّار وبين مَن يمثِّل المعارضة· وهذه الأطراف الثلاثة تركيا وايران وروسيا معنية مباشرة بالوضع السوري أكثر من أي أطراف دولية واقليمية أخرى· ومن شأن هذا الحوار أن يكبح جنون الأطالسة ويؤسس لصيغة حكم متجدد في سوريا لا يموت بموجبه الذئب ولا يفنى الغنم· والمعذرة من هذا التشبيه·

وبالعودة إلى ما بدأناه مطلع هذا المقال فإن ما نتمناه هو أن لا يصيب جيش مصر ما أصاب شرطتها، وأن لا ينتهي الأمر بأن حالة مؤسسة الحكم الحالي فيها ستصبح هي الأخرى من الحالات التي يحفل بها المشهد العربي – الدولي من حيث التناقض والإرتباك· وهذا أمر تقع المسؤولية فيه على الذين يتباطأون في الحسم··· والذين يواصلون بالكلام إشعال البيت ناراً· 

السابق
الفايسبوك أنقذ حياته..
التالي
لا تمويل للمحكمة والغليان السياسي آتٍ