أبعد وأخطر من تمويل المحكمة

الجدل الدائر حول تمويل المحكمة الدولية، وتداعيات عدم التزام لبنان الرسمي بمقررات مجلس الأمن الدولي، ما زال يدور في حلقة الموقف الحكومي من هذا الملف، متجاهلاً الأبعاد الوطنية لهذه المسألة الحسّاسة، وانعكاساتها السلبية على الصيغة الوطنية للعيش المشترك، وعلى العلاقات اليومية بين مكونات المجتمع اللبناني·
فالمسألة تتجاوز عملية التمويل المالي المحض، إلى ما هو أكثر أهمية، وأشد تعقيداً، لأنها تتعلق بالخيارات الوطنية التي أجمعت طاولة الحوار عليها في ربيع 2006 من جهة، ولأنها تحدّد هوية الممسك بالقرار اللبناني في هذه الفترة بالذات، من جهة ثانية·

لم تعد القضية متوقفة على المفاضلة بين الحكومة والمحكمة، بالنسبة لقوى 8 آذار، بقدر ما أصبح المأزق يطال سلامة النظام السياسي الحالي، وصيغة العيش الوفاقي التي أرسى قواعدها اتفاق الطائف، وكفل تنفيذها الدستور الحالي·

ومع التأكيد، مرّة أخرى، بأن الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، لا سيما أهالي الشهداء الأبرار وجمهورهم، يتمنون بأن تكون الأجهزة الإسرائيلية وراء عمليات الاغتيالات المتكررة، وأن عناصر <حزب الله> أو أي فريق لبناني براء من الاتهامات الموجهة إليهم··· مع ذلك لا بدّ من الاعتراف بأن طريقة تعامل <حزب الله> وحلفائه السياسيين لا تساعد على توفير أرضية لبنانية مشتركة للتصدي لمحاولات تسييس أو استغلال المحكمة، كما يقول الحزب، وذلك كخطوة أساسية للحفاظ على تماسك الجبهة الداخلية إزاء العواصف السياسية التي تجتاح أكثر من بلد عربي·

لقد أصبح واضحاً، أن عدم سداد لبنان لحصته في تمويل المحكمة، لن يُعيق عملها، ولن يُوقف استمرارها، بل على العكس، سيكون العدو الصهيوني هو المستفيد الأوّل من تعرّض لبنان لعقوبات دولية سياسية واقتصادية، تؤدي إلى عزل الوطن الصغير عن التعاطف الدولي المعروف، وإلى توجيه ضربات موجعة للبنية الاقتصادية اللبنانية، التي تشكو أصلاً من ضعف وترد في أكثر من قطاع، الأمر الذي سيُعرّض الشعب اللبناني برمته إلى عقوبات جماعية تفاقم الأوضاع المعيشية والاجتماعية الصعبة التي يعاني منها السواد الأعظم من اللبنانيين·

أما الإصرار، من جانب <حزب الله> وحلفائه، على معارضة استمرار لبنان القيام بالتزاماته تجاه المحكمة، فسوف يؤدي إلى استقالة رئيس الحكومة، المدعوم من رئيس الجمهورية ومن رئيس اللقاء الديمقراطي، في تمويل المحكمة، وبالتالي إلى إسقاط الحكومة، على خلفية ما نُسب لقيادة الحزب من أن الموقف من المحكمة أهم من الحفاظ على الحكومة!!·

ولكن مثل هذه القفزة في المجهول تُعيد طرح التساؤلات القديمة، والتي يتجدد طرحها عند أول منعطف انقسامي بين اللبنانيين:

من يُمسك بالقرار السياسي في الدولة اللبنانية؟ من يتحمل مسؤولية تعريض الشعب اللبناني لعقوبات دولية جماعية تضرب آخر قواعد صموده في خضم الأزمات المتلاحقة؟·

ومن يحق له التفرد بممارسة <حق الفيتو> على الخيارات التي يُجمع عليها اللبنانيون؟·

قياساً على تجارب مريرة سابقة، لا نعتقد أن ثمة مصلحة لحزب الله بتحمل تبعات مثل هذه المواقف، خاصة في مرحلة تهتز فيها الأرض تحت أقدام دول وأنظمة كانت حتى الأمس القريب تعتبر <قلعة استقرار>، وقياداتها <مستمرة إلى الأبد>·
 حاولت القيادة الفلسطينية في مرحلة عرفات في لبنان، القيام بهذا الدور، فكان أن دفعت الثمن باهظاً جداً، وانتهى بها الأمر إلى الرحيل عن لبنان·

حاولت <القوات اللبنانية> في الثمانينيات القيام بهذا الدور أيضاً، ولكن في إطار المجتمع المسيحي فقط··· ومع ذلك لم تسلم من حروب داخلية ما زالت ندوبها عميقة في الجسم المسيحي·

وكذلك كان الحال مع النظام الأمني السوري الذي أسّس لاستمراره عقوداً من الزمن، ولكنه لم يصمد أكثر من أسابيع قليلة عندما تغيّرت المعادلات في المنطقة، وفقد مبرّر، بل وتغطية وجوده في لبنان·

واليوم، قد يكون حزب الله الفريق اللبناني الأقوى تنظيماً وتسليحاً وتمويلاً، وهو كذلك في هذه الفترة·

وقد يكون الحزب هو صانع الرؤساء، ومؤلف الحكومات، على غرار ما كان يفعل الفلسطيني والسوري قبله·

وقد يكون الحزب هو صاحب القرار السياسي الأوّل في الدولة اللبنانية هذه الأيام، على نحو ما أبلغه امينه العام السيّد حسن نصرالله للرئيسين ميشال سليمان ونجيب ميقاتي حول قرار <حزب الله> رفض تمويل المحكمة، وعدم استعداده للخوض في هذا الموضوع، الذي يُعتبر منتهياً·

ولكن ماذا بالنسبة للغد··· في حال تغيّرت الأحوال وتبدّلت المعادلات؟·

ماذا نقول للشركاء في الوطن الذين يطالبون بتغيير النظام، وإعادة النظر بالصيغة، والذهاب إلى الفيدرالية بكل ما تحمله من تقسيم مقنع للوطن وللشعب؟·

كيف نحمي العيش المشترك بين اللبنانيين إذا لم يكن راسخاً على قواعد العدالة والمساواة بالحقوق والواجبات، بعيداً عن الاستقواء بالسلاح، وبالتحالفات القريبة منها والبعيدة؟

إن الأكثرية الساحقة من اللبنانيين تقف إلى جانب <حزب الله> في خوض المعركة القضائية والدبلوماسية ضد تسييس المحكمة حسب الأصول القانونية الدولية، وفي مختلف المحافل الدولية ذات الصلة، وثمة عشرات بل مئات من أساطين القانون وأهل الخبرة، على استعداد للتطوع في هذه الجهود لتبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود، خاصة إذا كانت الأدلة والقرائن التي عرضها الحزب عن تورط الأجهزة الإسرائيلية في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفق الحريري، موثقة حسب الأصول، ويمكن الاعتماد على صدقيتها لقلب طاولة التحقيق، وإحباط محاولات الاستهداف والتسييس·

ولكن، لا نخال أحداً من اللبنانيين يؤيد خوض معركة المحكمة على الساحة اللبنانية، من خلال الإصرار على نقض بروتوكول التعاون الموقع مع المحكمة، وعدم سداد حصة لبنان في ميزانيتها، والتنكر لالتزامات الدولة اللبنانية تجاه القرار الدولي 1757 الذي نص على إنشاء المحكمة، وبالتالي تعريض الاستقرار الداخلي للاهتزاز، ودفع العلاقات الوطنية بين الأطراف الطائفية والحزبية والمناطقية إلى مزيد من التأزم والاحتقان، والاكتفاء بترداد شعار: <مقاطعة المحكمة لأنها تخدم مصالح أميركا وإسرائيل>!!·

إن الأخطار المحدقة بعيشنا المشترك، وبسلامة وحدتنا، تبقى أهم وأخطر من مسألة تمويل المحكمة والفشل في إثبات تسييسها، حتى لو أدى ذلك إلى إسقاط الحكومة وفرط عقد الأكثرية الحالية!·
 

السابق
تجارب على الموظفين
التالي
البناء: طهران تُحذِّر مجدداً من تدهور علاقاتها مع تركيا بسبب مواقفها من أحداث سورية