إسرائيل كوظيفة أميركية

الذريعة التي تستخدمها أميركا دائماً في مواجهة حقوق الشعب الفلسطيني هي الدفاع عن أمن إسرائيل. يمكن دحض هذه الذريعة على المستوى المنطقي بسهولة. لم يهدد ولا يهدد الشعب الفلسطيني أمن إسرائيل بالمعنى العسكري. لم يستطع العرب مجتمعين أن يحققوا التوازن العسكري الاستراتيجي مع إسرائيل. لا تشكل طبيعة الحدود الجغرافية بين الدول اليوم في عصر التقدم التكنولوجي ضمانة لحماية الأمن. لا شيء يستطيع السيطرة على تطور الديمغرافيا الفلسطينية، ولا قوة في العالم تستطيع السيطرة على خيارات الشعوب العربية في المستقبل. إذا كان الغرب الاستعماري يريد هذه الضمانات لإسرائيل فهي أشبه بالاستحالات التي تبرر القول: إن إسرائيل كيان مصطنع لا أمل له بالبقاء. يدرك الأميركيون هذا الأمر وقد عبّر عنه الرئيس باراك أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون اللذان نصحا إسرائيل بحل الدولتين. لكن الرئيس الأميركي حين يعترض على الاعتراف بالدولة الفلسطينية إلا عن طريق التفاوض المباشر إنما يريد ان يعطي إسرائيل أفضل الظروف لفرض شروطها للحل حماية للمشروع والوظيفة.

لا يستطيع الغرب الاستعماري المسؤول عن المسألة اليهودية والراعي للفكرة الصهيونية إقناعنا انه ينظر إلى الحلول من زاوية حماية حقوق الشعوب، أو أحرص على أقلية دينية معينة والخضوع لمشيئتها، ضد مصالح وحقوق شعوب أخرى. مهما كان نفوذ العقيدة الصهيونية وتأثير مصالح الصهيونية لا يمكن ان يكون ذلك معزولاً عن مصالح الغرب الاستعماري وأهدافه. إسرائيل بهذا المعنى جزء من مشروع ووظيفة. لا يخضع الغرب لهذه الإرادة الإسرائيلية إلا لأنه يجد فيها مصلحة له ووظيفة

تؤديها. يحاول الغرب ان يقدم الصراع الدائر على أنه ثنائية إسرائيلية فلسطينية، وحين يفكر في حل هذا الصراع يضع إسرائيل في مقابل كل العرب وكل «الشرق الأوسط». لا يتصور الغرب وكذلك إسرائيل أي حل لمسألة الشعب الفلسطيني إلا بواسطة توازن يضمن لإسرائيل هيبة ونفوذاً وأمناً على مستوى المنطقة كلها. على حدود إسرائيل يجب، في هذا المشروع، ان تقوم أوضاع تحرس أمنها ومصالحها ونفوذها وأن يكون الفلسطينيون إحدى الوسائط لذلك، لا شعباً ذا سيادة واستقلال. تطابق النظرة الغربية النظرة الإسرائيلية في البحث عن «حلول إنسانية» تؤمن البقاء الاجتماعي تحت سقف المشروع الإسرائيلي ووظيفته. يتشابك التفكير العقائدي مع التصورات الإستراتيجية ويتعاونان على إنتاج موقف يجعل من إسرائيل وظيفة في المشروع الغربي الامبريالي.
راهن النظام الرسمي العربي كثيراً على تحجيم الوظيفة الإسرائيلية بالمزيد من التعاون مع أميركا والغرب عموماً، وتحاول تركيا اليوم هذا الدور، فلا ينجح أحد في ذلك. كل استراتيجية التفاوض والسلام وكل التعاون مع أميركا في الحرب على العراق وفي مواجهة إيران ومن قبل في مواجهة الاتحاد السوفياتي لم تخدم في استدرار عطف أميركا والغرب ولا في إيجاد فجوة مهمة مع إسرائيل.

قدّم العرب في قمة بيروت (2002) مشروع سلام يعطي إسرائيل اعترافاً شاملاً وينهي حال الصراع معها من المحيط إلى الخليج. لم تعد إسرائيل تفاوض على الأرض مقابل السلام ولا هي ترضخ لهذه المعادلة. إسرائيل صاحبة فكرة نظام «الشرق الأوسط الجديد».
شمعون بيريز ونتنياهو طرحا الفكرة منذ أواسط التسعينيات. «الشرق الأوسط» نظام ينخرط فيه كل العرب في علاقات حميمة، اقتصادية وسياسية وأمنية، مع إسرائيل ويدمجون ثروتهم بالعقل الإسرائيلي في شراكة عميقة. هذه الوصفة الخيالية لروّاد الدولة العبرية يحاول الغرب تسويتها اليوم من طريق تغيير أولويات واحتياجات شعوب العالم العربي وطموحاتهم. الشعوب المقهورة المحشورة بين الاستبداد وبين القبول بشكل مدجَّن من الرضوخ للوصاية الدولية. يستثمر الغرب على الاستبداد العربي ويتشاركان في تحوير المواجهة التاريخية التي كانت تنضج ضد نظام العلاقات السائد بعد أن استهلكت أنظمة المنطقة رصيدها فشلاً في المسألتين الوطنية والاجتماعية.
يواجه الغرب أنظمة لعبت على التناقضات الدولية ولم تثبت في حرب أو معركة لمصلحة شعبها كما ثبتت في الدفاع عن نفسها. ليس من نظام عربي كان يقبل أن تدفع بلاده في ثمن المواجهة مع إسرائيل ما تدفعه في ثمن الاحتفاظ بالسلطة.
يدرك الغرب كيف يستخدم التناقض بين الحكّام وشعوبها وكيف يجعل من مطالب الحرية عنصراً لتفجير الاستقرار والأمن. يحاول أن يمحو ما كان عالقاً في وجدان الناس عن صلة أوضاعهم المزرية بالتبعية للامبريالية. حين تواجه الشعوب تحديات الأمن تفكر كجماعات في غريزة الأمن والبقاء. العجز واليأس يأخذ الشعوب إلى حالات من الضعف كما يأخذ الأفراد. يقف الشعب الفلسطيني اليوم في لحظة من انسداد الأفق ليبحث عن مخارج لا عن الحقوق التاريخية. لو كان لهذا الشعب من سند قويّ يخفف معاناته ويقدر على لجم العدوانية والهمجية والغطرسة لما اختطّ طريق المساومة. قد يكون سقوط المبادرة الفلسطينية بالضربة الأميركية في الأمم المتحدة مقدمة لمرحلة من ابتكار أساليب الأمل. قد يأتي الأمل من استنفاد حال اليأس.  
حين تهلل إسرائيل لخطاب أوباما «التاريخي» في الأمم المتحدة وتصفه بوزير خارجيتها، أو حين ترى فيه الصحافة «جندياً لإسرائيل» علينا أن نفكر بمواجهة أميركا لا باسترضائها. أميركا بوصفها قيادة المنظومة الامبريالية وليست مجرد «دولة معادية لحقوق العرب». أميركا التي تحمي غطرسة خمسة ملايين يهودي ضد ثلاثمئة مليون عربي. هذه المعادلة لم تكن ممكنة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي إلا لأن العرب اختصرتهم نخب سياسية حاكمة وفرضت عليهم الانضباط تحت الهيمنة الأميركية. الانضباط العربي أو المشاجرة سهَّلا لأميركا أن تضع يدها على المنطقة بأشكال مختلفة. هكذا يبدو حلّ قضية فلسطين من رصيد أميركا وليس إسرائيل وحدها. حين تولّت أميركا قيادة العالم وحدها وفسّر مثقفو سيطرتها ذلك بنهاية التاريخ أو بصراع الثقافات لم يحصروا ذلك في الصراع مع الإسلام. استشعروا الخطر من ثقافات آسيوية أخرى صينية وهندية. أميركا تقف خاشعة اليوم أمام قوة الصين بعد أن اعتبرتها عدواً في زمن الشيوعية وعدواً في ثقافتها الآسيوية. استخدمت الصين نموها الاقتصادي أداة في تطويع الإرادة الأميركية. تستجدي هيلاري كلينتون القيادة الصينية في صياغة النظام المالي العالمي الجديد. تتصرّف أميركا على أن الفوائض النقدية العربية جزء من محفظتها. تحتل أميركا الإرادة العربية بالقواعد العسكرية وبالاقتصاد وحين يشاغب عليها حاكم عربي تفضح صورته إما كإرهابي أو كمستخدم للسلاح الكيماوي ضد شعبه وإما كمستبد متورط في جرائم ضد الإنسانية. لا يواجه الحاكم العربي أميركا إلا حين تهزّ عرشه. هو مستعدّ لإحراق بلاده وتدميرها. لكن الحاكم العربي لم يهدد المصالح الأميركية بل يردّ على أميركا في إخضاع شعبه ليستأنف لعبة المساومة. لكن الزمن العربي هذا بدأ بالأفول. فلسطين المحتلة التي يحاصرها الغرب الامبريالي لا تملك نفطاً تساوم عليه بل هذا الرصيد من الدماء والمقاومة وستجد لها شركاء كثراً في العالم لا تحتلهم ثقافة الصهيونية ولا ثقافة الاستبداد. أما شركاء أميركا من الزعماء العرب الواقعيين جداً والمشاغبين جداً فهم جميعاً يلعبون على المسرح الأميركي. حين تضطر أميركا إلى المساهمة في نشر الفوضى في المنطقة لا تستطيع ان تضمن قواعد اللعبة لأن اللاعبين هم حركات شعوب. هذا هو الأمل الذي تعد به الثورات العربية رغم كل تناقضاتها ونقاط ضعفها. 

السابق
الكتيبة الكورية تحتفل باليوم العالمي للسلام
التالي
قائد القوات الخاصة الأميركية يجول على الخط الأزرق