الراي: تفسيرات الراعي لمواقفه زادتها التباساً وانتكاسة علنية بين حزب الله وجنبلاط

رغم طغيان موجة ردود الفعل الواسعة على المواقف التي اطلقها البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي خلال زيارته لفرنسا على سائر العناوين الساخنة في لبنان، بدأت في الساعات الاخيرة ملامح اعادة تطبيع للوضع خصوصاً مع الانحسار الواضح لهذه الموجة وعودة الاهتمام تدريجياً بالملفات السياسية والاقتصادية التي تواجه الحكومة.
وفي هذا الاطار ركزت مصادر سياسية واسعة الاطلاع الاضواء على ثلاثة ملفات ينتظر ان تشكل العناوين الكبيرة التي ستتصدر التطورات الداخلية اعتباراً من الايام القليلة المقبلة، وهي تمويل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان واقرار خطة الكهرباء في مجلس النواب وانجاز مشروع وزارة الداخلية لقانون الانتخابات النيابية.
وفي الملف الاول قالت المصادر لـ «الراي» انه يبدو واضحاً ان كفة تسديد حصة لبنان من تمويل المحكمة الدولية باتت راجحة على احتمال امتناعه عن التسديد الذي من شأنه ادخال الحكومة في مواجهة دولية لا قدرة له على تحمل اثمانها الخطيرة.
ولفتت المصادر نفسها الى ان المنحى الذي تناول عبره رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ملف التمويل في احاديثه الصحافية والتلفزيونية الاخيرة عكس ثقة واضحة بقدرته على الايفاء بالتعهدات التي يقطعها، مما يعني انه يصعب تصور مضيه في هذا التوجه لو لم يكن واثقاً من امكان التوصل الى تسوية مع «حزب الله» على الموضوع. ويُعتقد ان الايام المقبلة الفاصلة عن توجه ميقاتي الى نيويورك قبل نهاية الشهر الجاري ستشهد بلورة لهذا الموضوع بشكل نهائي.
اما في موضوع اقرار الخطة الكهربائية التي احالتها الحكومة على مجلس النواب فتقول المصادر ان يوم غد سيكون الاختبار الاساسي لهذه الخطة باعتبار ان جلسة اللجان النيابية المشتركة ستناقش مشروع القانون، وهذا يعني ان الجلسة ستشهد اول تماس مباشر للمشروع مع نواب المعارضة وكتلها. ومع ان قوى 14 آذار اعتبرت ان الكثير من الضوابط التي ادخلها رئيس الحكومة على المشروع كانت بفضلها، فان ذلك لن يحجب كباشاً نيابياً جديداً ستسعى عبره المعارضة الى مزيد من التعديلات قبل عقد جلسة تشريعية لطرح المشروع على التصويت.
اما الملف الثالث فبرز مع اللقاءات التي يعقدها وزير الداخلية مروان شربل تمهيداً لانجاز مشروع قانون الانتخاب الذي يرتكز على اعتماد قاعدة النسبية. وتقول المصادر ان هذا المشروع سيثير عاصفة من الجدل السياسي بعد انجازه واقراره في مجلس الوزراء وان معركته طويلة الامد اذ تبدأ بين قوى الحكومة نفسها وتشمل جميع القوى السياسية، ولن يكون انجازه سوى الخطوة الاولى في الف ميل يصعب معها معرفة اي ملامح ستنحو اليها معركة مفتوحة مبكرة كهذه.
ورغم توقُّع طغيان هذه العناوين على الاجندة السياسية بقيت المواقف الباريسية للبطريرك الراعي سواء من الوضع السوري او من سلاح «حزب الله» محور اهتمام من زاويتيْن هما:
– قياس تداعيات مواقف الراعي الذي عاد امس وخلال جولته التي بدأها في المتن الاعلى ويستكملها اليوم الى توضيح مواقفه «المجتزأة»، على العلاقة بينه وبين مسيحيي 14 آذار الذين كان وفد منهم زار بكركي (حيث مقر البطريركية) اول من امس مستوضحاً حقيقة موقفه ولا سيما ما نُقل عنه من انه «اذا تأزم الوضع في سورية أكثر مما هو عليه، ووصلنا إلى حكم أشد من الحكم الحالي كحكم الإخوان المسلمين فإن المسيحيين هناك هم الذين سيدفعون الثمن سواء كان قتلا أم تهجيرا»، وإشارته الى انه «إذا تغيّر الحكم في سورية وجاء حكم للسنّة فإنهم سيتحالفون مع إخوانهم السنّة في لبنان، مما سيؤدي إلى تأزم الوضع إلى أسوأ بين الشيعة والسنّة»، وربطه استمرار سلاح «حزب الله» بتحرير ما تبقى من اراض لبنانية محتلة وتحقيق عودة اللاجئين الفسطينيين.
ووسط تقارير في بيروت لم تستبعد امكان مبادرة بكركي الى عقد اجتماع للبطاركة الكاثوليك لتداول التطورات الخطيرة التي تشهدها المنطقة وانعكاساتها على وضع المسيحيين، انطلاقا من المخاوف التي أبداها الراعي، بدأت علامات استفهام ترتسم حول مصير الاجتماع المقرر للقيادات المسيحية الرئيسية من 14 و 8 آذار في بكركي في 23 من الشهر الجاري. وفي حين افادت معلومات ان رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع يدرس الموقف من مشاركته وجدواها بعد مواقف البطريرك، استبعدت اوساط سياسية ان يصل الامر بجعجع الى مقاطعة الاجتماع لانه سيعني مقاطعة لبكركي كمؤسسة وهو ما يصعب ان يصل اليه رئيس «القوات» الحريص على تأكيد الاعتراض على ما نُقل عن رأس الكنيسة ولكن من دون ان «يقطع» معه كلياً.
ويذكر ان النائب أنطوان سعد، الذي كان زار بكركي مساء اول من امس مع النائبين مروان حماده وهنري حلو والنائبة السابقة نايلة معوض، اوضح انه لمس لدى لقائه الراعي «تمسكا بالثوابت الوطنية وبثوابت بكركي وعلى رأسها الحرية»، مشيرا «الى ان المناخات لدى البطريرك أراحتنا»، ومشدداً على ان الاخيرما زال متمسكا بعقد لقاء الأقطاب الموارنة، ومتوقعا حضور الجميع.
وتجدر الاشارة الى ان زعيم «التيار الوطني الحر» النائب العماد ميشال عون كان اول قيادي مسيحي يزور الراعي (مساء الاثنين) مثنياً على مواقفه، ومعلناً بعد اللقاء أن «ليس جديدا ان نؤيد المواقف التي صدرت عن البطريرك الراعي المؤتمن على السينودوس من أجل لبنان والسينودوس من أجل المشرق». ونُقل عن البطريرك قوله خلال الاجتماع بضرورة استيعاب الانتقادات، شارحا: «انا أقول لهم الحقيقة وسأبقى أقولها فأنا لست مع أحد ضد أحد. وستُبقي بكركي أبوابها مفتوحة لكل أبنائها».
– اما الزاوية الثانية فتتمثل في بروز ملامح اول «انتكاسة» معلنة في العلاقة بين «حزب الله» ورئيس «جبهة النضال الوطني» النائب وليد جنبلاط على خلفية موقف الاخير من كلام الراعي ورفضه ربط مصير لبنان بمزارع شبعا ورب السلاح بملف التوطين مؤكداً وجوب استيعاب سلاح «حزب الله» تدريجاً في إطار الدولة اللبنانية، ومذكّراً البطريرك بان منطق تحالف الاقليات دمّر لبنان.
 
وقد سارع «حزب الله» عبر قناة «المنار» الى توجيه «رسالة» لجنبلاط اذ غمز في مقدمة نشرته الاخبارية مساء الاثنين من حقيقة تموضع الزعيم الدرزي، بادئاً بالحديث من دون تسمية عن «مواقف تفتح الشهية على تحليلها لرصد ثبات البعض على مواقعهم، وتأرجح البعض بين بين، وإعادة البعض تموضعهم بحسب اتجاه الرياح الإقليمية»، قبل ان يسمي جنبلاط ويتهمه «بالاقتراب من القوات اللبنانية ومتفرعاتها بانضمامه إلى منتقدي البطريرك، إن كان لجهة الموقف من سلاح المقاومة أو التوطين أو حتى ممّا وصفه جنبلاط بالكلام التخويفي من التيارات السلفية الصاعدة».
وفي حين رأت مصادر جنبلاط في الرد التلفزيوني هجوماً من حزب الله عليه اوعز رئيس «جبهة النضال الوطني» الى نوابه وقياديي حزبه (التقدمي الاشتراكي) عدم التعليق قبل ان يتولى هو الرد شخصياً خلال استقباله وفوداً مساء امس. علماً ان رئيس كتلة نواب «حزب الله» محمد رعد اطلق موقفاً «حمال اوجه» بعد زيارته الرئيس السابق للجمهورية اميل لحود اذ قال رداً على سؤال حول موقف جنبلاط من «ضرورة عدم ربط مصير لبنان بتحرير مزارع شبعا»، انه «لا يفيد التسرع في إطلاق المواقف حاليا». ولم يُفهم اذا كان رعد يقصد انه لا يريد هو ان يطلق موقفاً متسرعاً او اذا كان يعتبر ما اعلنه جنبلاط موقفاً متسرعاً.
وكان هذا المناخ المستجدّ محور اللقاء الذي جمع بين جنبلاط ورئيس الحكومة خلال العشاء الذي اقيم في منزل الاول في كليمنصو ليل الاثنين، علماً ان الانتقادات لم توفر ميقاتي عبر شاشة تلفزيون «ان.بي.ان» (تابع للرئيس نبيه بري) الذي اطل من خلاله الوزير السابق ميشال سماحة (الوثيق الصلة بالقيادة السورية) منتقداً موقفه من تمويل المحكمة (يؤيده جنبلاط ايضاً) وحماية الموظفين السنّة، واصفاً ميقاتي بـ «الأب الروحي» لهؤلاء الموظفين، ولافتاً الى برودة من الأخير إزاء تعاطيه مع الوضع في سورية بعدما اتهمه بتقديم التزام للأميركيين لمحاصرة سورية في لبنان.
وفي حين استوقف دوائر مراقبة في بيروت تزامُن زيارة البطريرك الراعي لباريس التي أطلق منها مواقفه المستجدة مع وجود سماحة فيها، اكمل الوزير السابق وئام وهاب الهجوم على ميقاتي على خلفية تمويل المحكمة معلناً بعد زيارة عون أنّ «المحكمة الدولية لن تموّل»، وقائلاً «اذا اصرّ رئيس الحكومة، فليموّلها من جيبه».
وكان البطريرك الراعي اعلن في اولى محطات جولته في المتن امس، وتحديداً من منطقة العربانية في توضيح لما نُقل عنه في باريس: «لا نريد ان نلغي احدا ولا تهميش احد، فلبنان في حاجة الى كل ابنائه واحزابه وتياراته وطوائفه، واقول لكم شيئاً انا آسف له، انهم بعد الزيارة الى فرنسا حصل الذي حصل، ولكن اريد ان اؤكد لكم الشركة والمحبة هي الباقية، ونحن عكس ما صدر من اجتزاء كلمات، من هنا وهناك واوجدت بلبلة، اريد ان اطَمئن كل من يسمعونني انني لا اتخلى مع مطارنتنا وشعبنا وكنيستنا، عن شركة ومحبة، ونحن لا ندخل بأي خلافات فئوية في لبنان ولا في خارج لبنان، واؤكد لكم انسوا ما طلع من اجتزاءات ربما متعمدة، اجتزاءات عن حديث لي وكلمات قيلت في فرنسا ليس لها علاقة بمواقفي الشخصية الاساسية».
اضاف: «شبهناه للذي يقرأ لا إله ولم يكمل الجملة، قال الجاهل في قلبه، لا تتأثروا في كل ما يخرج في الاعلام وبعناوين مجتزأة، اذهبوا الى العمق (…) وخلافات الناس عموما على سوء الفهم والتفاهم. نهجي المصارحة والموضوعية وقول الحقيقة من دون ان اخذ منحى لاحد، وكونوا على ثقة، لن اتراجع عن شركة ومحبة، لكل الناس والفئات والاحزاب والتيارات والطوائف والمذاهب».
وتجدر الاشارة الى ان الرئيس بري كان اعتبر أن «ردود شخصيات 14 آذار الانفعالية على البطريرك الماروني تثبت مرة أخرى أن هؤلاء يعبدون آلهة من تمر، لا يترددون في أكلها عندما يجوعون»، مستهجناً في تصريح صحافي ان «يفقد بعضهم أعصابه ويتجاوز الأصول في مخاطبة البطريرك الراعي، لمجرد أنه أعطى رأياً مخالفاً».
 

السابق
طريق الثورة الشائك
التالي
مركبا التي هجرها أكثر من 90 % من أهلها تحاول استعادتهم بالمشاريع العمرانية