الحوزات الدينية:هل سقطت من عليائها في مواجهة تحديات العصر!!

هل سقطت الحوزة الدينية من عليائها،وركد حضورها في مناهج قديمة بالية،لا تؤهل طالبها، أن يكون رجل دين مثقفاً وعالماً ومفكراً، بل ترتطم اليوم بأمواج عاتية قد لا تصمد في وجها، فتلغي حضورها اللهم الا بعض ممن ركب مركب العلم الحديث، ونأى بنفسه عن شرك التقليد؟ لا شك أن هذا الواقع الخطير للحوزات الدينية في لبنان ينذر بإرتدادات خطيرة، خاصة وأن بعض علماء الدين ذهب الى حد القول "أن الحوزة اليوم عبارة عن سلة كبيرة، لجمع التبرعات والأموال"،وهذا يدل على مدى تراجع الحوزات الدينية عن الخط التي أنشئت لأجله، وتحولت لتصبح خالية من مقاليد الثقافة، التي تُمكن عالم الدين من أن يكون عالماً مثقفاً ومفكراً وباحثاً… فما هو واقع الحوزات الدينية في منطقة النبطية في جنوب لبنان؟
في النبطية يوجد خمس حوزات هي أنصار، تول، النبطية (متوقفة)، حبوش (خاصة)، وجباع، إضافة إلى ثلاث حوزات نسائية، ولكن هذه الحوزات معظمها يتصف بتقليدية مناهجه، وتقلص حجم الإقبال عليه، فضلاً عن تراجع الخطاب الحوزوي وحضوره، ما أبعد الحوزة عن دورها الذي لعبته فيما مضى والذي كان فاعلاً على كافة الصعد الإجتماعية، الدينية، الثقافية، السياسية والأدبية، وهذا ما يدفع للمطالبة بتطوير الحوزات بعد أن وقعت في شرك التقليد.
يقول نائب رئيس لقاء العلماء اللبناني السيد ياسر إبراهيم الحوزات الدينية "انحرفت عن مسارها "وأصبحت دكانة مذهبية ومؤسسة تعليمية فاشلة، من حيث الشكل والمضمون"، لافتاً إلى أن "الحوزة تغيب عنها البرامج التعليمية المتطورة، وتفتقد الى منهجية البحث العلمي الموضوعي،التي تُمكن عالم الدين من التطوير والبحث، وهذا حولها لتكون عبارة عن مدرسة مذهبية لا إسلامية".

تطرح هذه الوجهة، إشكالية كبرى تقع داخلها الحوزات التي بدأت تفرخ كالفطر، عدداً كبيراً من المعممين دون أن تفرخ عِلماً مصقلاً بثقافة واعية ومتطورة، وهذا الواقع يدعو للتساؤل عن الحال والدور المناط بالحوزة، هل سقطت في فخ التقليد؟ أين هو موقعها من انزلاقات العصر؟ هل تقوم بدورها التبليغي، أو يقتصر على تباشير دينية خالية من ألوان الثقافة المخملية، التي تمكن رجل الدين من محاكاة واقعه بطريقة انفتاحية، لا تقوقعية؟.
يشير الباحث الشيخ محمد قانصو الى أن "الدراسة الحوزوية لا زالت تضع نصب أعينها المنهج الدراسي التقليدي، وتعمل على تخريج رجل دين يختزن علماً حوزوياً منحصراً في مادة الفقة والأصول والمنطق، دون أن تعنى عناية إضافية بتخريج قادة أو سياسين أو مثقفين الذين يكون لهم تأثير واقعي في مجتمعهم"، وهذا ينعكس سلباً على الخطاب الديني"من هنا نجد أن بعض المعممين لا يجيدون لا اصول ولا فروع الحوار،بل يَسقطون ويُسقطون الحوزة في شرك الضمور الخطر، لانتفاء الثقافة من جعبتهم وهذا اخفاق"،من هنا يلحظ قانصو ضرورة" اعادة ترتيب بيتها الداخلي للنأي بذاتها عن التجاذبات الخطرة التي تدور في فلكها والذي ابعدها عن لعب دورها التاريخي الذي انطلق عام 786 هجرية مع الشيخ محمد مكي الجزيني الذي اطلق اول حوزة في جبل عامل.

ويتساءل قانصو:"لماذا تبعد الحوزة عن الجامعة،ولماذا لا نمنهج الدراسة الحوزوية؟، لماذا مثلاً تختصر المناهج الحوزوية بالكتب والمراجع الدينية، لما لا ندرس اللغات ولما لا يستطيع العالم أن يحاكي المجتمع الاخر؟ لما لا ندخل علم السياسة أو التخصص السياسي فالسياسة والدين توأمان؟ أسئلة قد تضع الأصبع على الجرح ولكن الاجابة غير شافية إذا ما عرفنا "أن الحوزة لا زالت تمارس دورا تقليديا فالمناهج قديمة، ولا تضفي كفاءة ذاتية على رجل الدين، الذي يضطر لكي يطور نفسه بنفسه وهذا حتما يؤثر على المجتمع، لأن معظم رجال الدين لا يملكون ثقافة الحوار، ولم نعتد قراءة الأخر، في الحوزات العلمية نقرأ الذات دون أن نملك قدرة قراءة الفكر الأخر المسلم، وهذه مشكلة نرجسية إذ غالبا ما ينطلق العالم من عقدة الاناوية ويعتبر انه هو المحق وهذا يبطل أبواب الحوار".

إذا يسجل الكثير من العتب واللوم على تقصير حضور الحوزة، التي تنصرف الى تشريع علوم تقليدية،لا تغني ولا تسمن من ثقافة وارعة، وهنا يعلق إمام بلدة حبوش السيد علي مكي بالقول "لدينا خطاب ديني قاتم وأسود يستخدمه ثلة من المعممين، أو من رجال الدين، الذين لا يزالون يعيشون في عالم القبور والأكفان، والإستحاضة والنفاس وعالم الأخرة، وأهملوا معالم الحضارة التي يعيشها كل أبناء القرية والمدينة، فأهملوا الفضاء والفيزياء والكيمياء والرياضة والفن الموجّه والأدب والشعر الى ما هنالك من علوم، بحجة أن هذا التطور غريب عن المعالم الدينية، هذا أمر خطير للغاية، لذا المطلوب الخروج من هذا الجمود إلى السياسة والإدارة والحدود ومن التقليد، لكي نعيد ثقة الناس بالحركة الدينية وبرجال الدين، وبالخطاب الديني وبالحوزة وإلا سنصل الى مرحلة نحن في مكان والأخرون في مكان أخر". 
إذاً فقدت الحوزة دورها الريادي وبدأ ناقوس الخطر يطرق بابها،وبشكل متجذر،وهذا ما دفع مدير مدير فرع الدراسات الاسلامية لفقه آل البيت"ع" في ميس الجبل الشيخ علي حسين بندر للقول "أن "دور الحوزة ملغى عن الساحة،وهذا ينعكس إنحرافاً كبيراً على مستوى المجتمع، لأن المجتمع لم يعد يتصل مع القيادة الدينية، بل مع القيادة السياسية،ذات الرؤية الخاصة المحكومة بمنظومة مصالح ، ويرد هذا الامر "إلى ضعف المنهج التعليمي،فالطرح العلمي يحتاج الى رد عقلاني وليس جافاً، فالمطلوب أن نعيش حركية التفاعل مع المجتمع،لذا أجد من الضروري تصويب الخطاب الاجتماعي بطريقة فعالة، لأنه مكبوت داخل المناهج الحوزية، والمفاهيم الدينية التي ستصبح غريبة ومعها الحالة الدينية إذا لم يطرأ تطور".
وهنا يشير السيد إبراهيم الى "أن الحوزة اليوم غير مؤهلة لتخرج علماء ومثقفين ومبدعين، بل تخرج التعصب، والمطلوب إعادة هيكلية المنهجية الدراسية للحوزات بمعنى انه لا بد من عصرنة البرامج التعليمية في الحوزات حتى تواكب الزمن والقضايا المعاصرة والمشكلة الكبرى أن لا رقيب ولا حسيب على أصحاب الحوزات".

إذاً عصرنةُ الحوزة هي المطلوب، كي تملك القدرة على مقاومة آفات العصر المتفلتة على مصراعيها، فقد سقط العديد من الحوزات في الفخ، فيما تجهد بعضها في النهوض كحوزة ميس الجبل التي تعود إلى أكثر من 500 سنة "التي تمكنت من إعادة تمجيد حضورها الديني، ذات النظرة العالية التي شدت الناس لها، وعملت على إدخال التطوير العلمي، ككلية التبليغ الديني وهذه أدخل عليها قراءات معاصرة على مستوى الاكتشافات الجديدة، كما وأدخل علم النفس إلى برامجها، "لأنه حين نريد أن نتصدى لقضايا إجتماعية يجب أن نُلم بطريقة تفكير الناس وهي لم تكن متوفرة سابقا داخل الحوزات، إضافة الى نظام تعليمي يسري مع تطور المنهجية، كما وقسمنا الحوزة إلى فروع الفقه، والاجتهاد والتبيلغ الاجتماعي والأبحاث، فقليل من الحوزات تعتمد مبدأ نمطية البحث الموضوعي لذلك نجد أن الباحثين في لبنان قليلون، من هنا عملنا على إيجاد مفاتيح للامر وتمكنا من إنتاج أبحاث أحدثت صدمة إيجابية لقضايا تعتبر أساسية" حسبما يقول الشيخ علي بندر.

وهو ما يطبقه السيد علي مكي في حوزته الدينية في حبوش "ندرس الطب الديني والطب القديم والحديث، والعلوم المعاصرة والقوانيين والقواعد واللغة والأصول والفقه وتفسير القرأن الذي ندرس عبره الفلك والرياضيات والفيزياء" ولكن ليست تلك المناهج تطبق في كل الحوزات بل قلة قليلة أدخلت التطور،وهنا مربط الفرس ماذا تنتظر بقية الحوزات لتتطور؟
يقول مكي "أنها تحتاج الى "تسونامي ثوري علمي يعيدها إلى الوعي، لتواجه أفات العصر وفق التعاليم الدينية المتطورة"، ولكنه "يستبعد أن يحصل هذا الامر في الوقت القريب، لأنه طالما هناك رخاء أرى صعوبة أن يحصل تسونامي ثوروي.
تعيش الحوزات عصر التراجع العلمي، وإن حافظت على حضورها الديني الفقهي، ولكن هل يكفي أن نلم بالدين وتعاليمه فقط لمواجهة الهجمة العولمية الشرسة، أم يجب التفافها حول العلوم الحديثة لكي تحصن حضورها وتعيد المجد لدورها؟ سؤال ربما ظهرت تباشيره في المراحل المتقدمة وربما السنين المقبلة.
 

السابق
هل تهور أردوغان؟
التالي
باب السجن!!