لبنان.. الدولة المقهورة

لبنان بستان عطاء، تنوعه غنى، وهذا التنوع بمثابة الازهار التي تلقحُ احداها شجرة الاخرى، لتتكامل وتثمر خيرا ورقيا وحضارة. شهد تجارب في بناء الدولة وإرساء المؤسسات، كانت مثالا ـ في بعض الأحيان ـ لسلطة الدولة الديموقراطية، بالرغم من الشوائب وشكل هذا اللبنان ملتقى الشرق والغرب، وتقاطع بين التطور والتقليد ورسالة تحتذى لتعايش الأديان والثقافات في العالم.

دخلت الى هذا البستان اللبناني وحوش كاسرة من اسرائيل وغير اسرائيل هشمت اجزاء من اشجاره المعطاءة وادخلت امراضا الى تربته الرطبة، عشعشت في باطنها تعفنا صعب القضاء عليه.

وإذا كان في العالم هناك قارات مهقورة ومناطق مقهورة ودولا مقهورة ومجموعات مقهورة وقوى سياسية مقهورة ففي لبنان هناك ايضا دولة مقهورة تجاهد لتقف على رجليها فتأتي الوحوش المفترسة لتلقي بها ارضا، بعد كل جولة عناء.

فالشر الاسرائيلي يتربص بلبنان من الجنوب وهذا الشر المطلق يخلق متاعب للدولة لا تكاد تنتهي من معالجة مشكلة سببها، إلا ويخلق لها العدوان الاسرائيلي مشكلة جديدة واحدى مشكلات هذا العدوان موضوع المقاومة، هذه المقاومة التي قدمت التضحيات الكبيرة من اجل التحرير وفي سبيل الدفاع عن لبنان، اصبحت عبئا على الدولة، بقدر ما هي مدافعة عنها والتزاوج بين سلاح الدولة وسلاح المقاومة مساكنة ثقيلة، تحتاج الى عصامية قد لا تكون موجودة، وإلى شفافية ربما تتناقض مع واقع عمل الجهتين، إذا ما كانا منسجمين ـ فكيف والحال لا تخلو من عدم انسجام، بسبب اخطاء وقعت فيها المقاومة سابقا (وخاصة في 7 مايو 2008) وايضا بسبب تشكيك قسم كبير من القوى السياسية بجدوى استمرار هذه المقاومة بعد مايو عام 2000.

أما على المقلب الآخر، اي من جانب سورية الشقيقة فالدولة اللبنانية مقهورة ايضا فهي تحملت ثقل الوجود السوري على مدى ثلاثين عاما (رغم بعض ايجابياته) كما انها تتحمل اليوم وزر الاضطراب في سوريا، وعلى شاكلة اوسع تهدد بتقويض ركائز هذه الدولة اذا ما تمادى الاطراف اللبنانيون في الانغماس في مجريات الاحداث الخطيرة في الجارة القريبة، على ما اشار اليه مايكل وليمز ممثل الامين العام للأمم المتحدة في لبنان.

والدولة اللبنانية مقهورة لأنها مجبرة على ان تكون مساحة احتواء لكل تناقضات الاحزاب والاطياف وبين سلطاتها الثلاث ـ التشريعية والتنفيذية والقضائية ـ يتعايش ممثلو القوى المتناقضة، من خلال صيغة تمثيلية يفرضها على اجهزة الدولة كافة تطبيق احكام قانون توافقي مذهبي وطائفي غير مكتوب، يحمي معظم الاحيان التجاوزات، والارتكابات، ويسيء الى العدالة (المحلية والدولية)، ويقوض مبادئ النزاهة والاستقامة رغم وجود الأكفاء.

والدولة اللبنانية مقهورة، لأن بعض المجموعات فيها مقهورة، ويفرض عليها الاختيار بين مناصرة التعصب هنا، او مناصرة التعصب هناك، كأنما الدعوة الى الاعتدال انحراف والتمسك بالحريات وبالحوار انحياز.

الدولة المقهورة ملزمة بالتوافق ولا تبنى الا بالتعاون والتلاقي، فلا احد في لبنان يستطيع احتكار السلطة، ولا يتمكن من الهيمنة على مقدراتها.

فلا المربعات الامنية تفيد احدا ولا تعفي الاتهامات والتخوين مطلقيها من مسؤولية الارتكابات وصورة الابيض والاسود اصبحت تظهيرا قديما عندما برزت نقاوة باقي الالوان.

ان المسؤولية التاريخية تقتضي الحفاظ على هذه الدولة المقهورة في زمن المفترقات الصعبة لأن خسارة وجود الدولة لا تعوضها اية ارباح فئوية اخرى، والشعوب المقهورة تناضل للحصول على الدولة الديموقراطية اما نحن فنريد ديموقراطية بلا دولة.

السابق
الحياة: القضاء يعلن ان انفجار انطلياس ناجم عن عبوة والمحققون يحلّلون اتصالات القتيلين
التالي
ابنة وزير !!