حكاية تشبيح في شارع الحمراء

الدعوة التي وجهت للاعتصام أمام السفارة السورية، الثلاثاء الماضي، في 2 آب، كانت سريّة، أو هذا ما كان يفترض أن يكون. سريّة لا لأنهم «خفافيش ليل»، بل لأنهم يعرفون مسبقاً ما سيتعرضون له من قمع. تسربت المعلومات، وليس من المجدي معرفة كيف ومن فعل ذلك، وإن كان التسريب يغري بالمقارنة بين المخبرين وأساليبهم وأخلاقهم، مهما تغيّرت جنسياتهم.
الساعة الثامنة مساء، كما هو متفق، وصل المعتصمون المتضامنون مع الشعب السوري. كان في اعتقادهم أن شهر رمضان وموعد الإفطار سيلهي «الآخرين» عن إفشال تحركهم، كما اعتادوا أن يفعلوا. لكن هؤلاء أبوا، هذه المرة أيضاً، إلا أن يكون إفطارهم على وجبات دسمة، رافقتها رائحة دماء.

تمرّ لحظات قبل أن تصل مجموعتان، كل واحدة من جهة. لم ينس «أبطالها» أن يحضروا معهم عصيهم السحرية التي انهالت لاحقاً على كل من وقف في طريقهم، ناهيك عن الأحزمة الجلدية، التي ما زال أثرها واضحا على أجساد بعض المتظاهرين.
بدأت مرحلة انتظار تلاها استفزاز الموالين. أراد هؤلاء أن يقوم المعتصمون بأي ردة فعل «تبرر» انقضاضهم عليهم. لكن الشباب أدركوا هذه الغاية، فامتنعوا. بدا أنصار النظام السوري بالهتاف: «الله، سوريا، بشار وبس». لم يكتفوا بذلك. كالعادة، عمدوا إلى اتهام المتضامنين بالعمالة، بهتافات تطفح بالشتائم والإهانات. صرخوا «يا بندر ويا (…) ضبّ كلابك من بيروت». وعند كلمة كلاب كانوا يوجهون أصابعهم نحو المعتصمين.

أمام العيون التي كانت تقدح شراً ولؤماً لم يجد الشباب غير التراجع سبيلا. بدأوا بالتراجع إلى الخلف في حين أن الآخرين استمروا بمطاردتهم. تحول الاستفزاز إلى هجوم. البعض أستطاع الهرب، أما البعض الآخر فكان وقوعه أرضا سببا كافيا لتدوس عليه الأقدام وتنهال عليه الضربات من كل حدب وصوب.

بعض المشاركين كانت إصاباتهم بليغة، فنقلوا إلى المستشفى. التكلفة كانت باهظة. ورغم العروض التي أتتهم من قبل جهة سياسية لتغطية النفقات، إلا أنهم رفضوا أن يتحولوا إلى «إنجازات» بيد بعض السياسيين. فدافعهم للتحركات كان ولا يزال إنسانياً، غير قابل للاستثمار.

هذه الحادثة ليست الأولى. منذ بدء الثورة في سوريا، وكل محاولة للتضامن مع الشعب السوري تقمع. كل دعوة للاعتصام، تقابلها تحركات مضادة يدعو إليها مناصرون لأحزاب موالية للنظام، في الزمان والمكان نفسه. تحركات تنسب لسوريين مقيمين في لبنان. لكن الصور المرفوعة والشعارات المطبوعة تشير بوضوح إلى جهود منظّمة تقف خلفها. ليس ذلك فحسب. هناك أيضا عناصر الأحزاب المعروفة بمواقفها، «تحرس» المكان والطرقات المؤدية إليه. لكنهم لا يكتفون بذلك. فعلى مرأى من عناصر القوى الأمنية والمشاركين والعابرين، يعمدون إلى التقاط صور وجوه المشاركين والمشاركات لضمّها إلى أرشيفهم.

ذلك بعض ما يجري في العلن. هناك أيضا ما يحدث بأساليب تتخذ طابعا أمنيا لتخويف المتضامنين مع الشعب السوري وثورته لأجل الحرية. ترهيب يتخذ أشكالا عدة: كلام مسيء وإهانات، بأسماء حقيقية أو مستعارة، وملاحقات في الشوارع، وتهديدات تصل إلى هواتف الناشطين. لكن، خلافا لما يفترض من سريّة تتصف بها الأعمال الأمنية عادة، بات هؤلاء يعلنون صراحة استعدادهم الدائم لمعاقبة و«دعوسة» كل من يفكر بالمشاركة في اعتصام يرفض القمع وينادي بالحرية.

الاعتداءات التي تطال المعتصمين السلميين لا تزال مستمرة، والتهويل الذي وصل مرارا إلى حد التهديد علناً بالقتل إلى تزايد. وهناك، في المقابل، من يستمر في غض النظر عنها. هناك مسؤولو الأحزاب التي تنفي مشاركتها في «القمع»، لكنها تغض النظر عن ممارسات عناصرها، في تواطؤ ضمني لا تنفيه سوى إجراءات محاسبة واضحة، لا مجرد بيانات. وهناك أجهزة الدولة التي لا تجد حرجاً في ملاحقة فنان بسبب أغنية تطال رئيس الجمهورية مثلا فيما تترك مئات الناشطين عرضة للاعتداء والتهديد بالقتل من دون أن يرف لها جفن.

حدث ذلك في اعتصام السفارة، ويحدث ذلك في صفحات المواقع الالكترونية التي تحوي من التهديد ما يكفي لتحرك الأجهزة من تلقاء نفسها. وفي الحالتين، تمتنع الدولة عن حماية مواطنيها. وانكفائها عن محاسبة المعتدين والمهددين لا يمكن إدراجه إلا في خانة تكريس القمع، في انتهاك خطير لحقوق الفرد وغياب العدالة التي اتخذت على ما يبدو موقفا مناهضا للحريّة.
ما حصل في 2 آب لن يبقى كغيره من الحوادث قيد الكتمان. فالسكوت عن «جريمة السفارة» بات يعد مشاركة فيها. القضية لن تنتهي، والمذنب سيحاسب والأدلة موجودة للإدانة.

السابق
علاج لسرطان الدم الليمفاوي
التالي
دبّ في حديقة المنزل!