الجنون يلفّ سوريا

 إلى أمد غير معروف، سوف تبقى سوريا ساحة لمواجهات عنيفة بين النظام ومعارضيه. الفريقان يتمسكان يوماً بعد يوم بخططهما. والخارج المترقب أو المعني ينحو أيضاً نحو الحسم في المواقف. وكل خطوة على الارض لها انعكاساتها في كل الدنيا. لكن الوقائع الميدانية تظل هي الاساس. لكن الحسم بالطريقة التي يتصورها البعض لن تفي بالغرض المطلوب. فلا إسقاط النظام له أفق واقعي، ودونه متاعب كبيرة، ولا إعادة إمساك سوريا بالحديد والنار له أفق أيضاً. وليس في المتناول من يردم الهوة المتسعة بين المتنازعين في سوريا. والتنازلات المطلوبة كبيرة ومؤلمة على الجانبين. لكن لا بد منها اذا كان السوريون يفكرون في طريقة منطقية تقود إلى تسوية بالحد القائم من الخسائر.
توسع عمليات القمع من جانب النظام، والاتكال على العنصر الامني والعسكري، قد يؤديان عملياً إلى تقليص حجم التظاهرات، لكنه لن يكون قادراً على وقف الاحتجاجات التي تجتاح معظم سوريا، ويشارك فيها قسم كبير من السوريين. وإذا كان النظام قد قرر من جانب واحد ان الحسم الميداني هو الوسيلة الفضلى لديه لمواجهة ما يعتبره مؤامرة كاملة، فإن بعض المعارضين يتجهون إلى ما هو أخطر، وصاروا يصرّحون أكثر بأن الامور قد لا تظل في إطارها القائم حالياً. صحيح ان هناك مجموعات مسلحة تقوم بأعمال إجرامية في اكثر من منطقة، لكنها لا تمثّل الصورة العامة للتحركات الشعبية. وحتى القوى المعارضة التي تطل على السطح، لا تمثل بدورها حقيقة المشهد القائم عند الشباب الذين يتولون ادارة العمل اليومي على الارض في المدن والقرى والحارات.
المعضلة، تكمن الآن، في ان النظام لا يقبل محاورة من يصرّ على انهم أدوات بيد الخارج الذي يريد الشر لسوريا. وهو أصلاً لا يقدم اي تنازل يتيح لمعارضين وطنيين، غير متصلين ابداً بالخارج، الاقدام على خطوة نحو التسوية. وحتى اللحظة، لا يجرؤ احد من هؤلاء، وهم كثر، على إجراء حوار علني، وعلى عناصر تسوية، خشية ان تنزع عنه الشرعية من شارع غاضب جرّاء الدم المسفوك باطراد.
في حالة الاصطفاف الحاد هذه، يصعب الوقوف إلى جانب فريق ضد الاخر، ومن يفعل ذلك يتجاهل حقائق صعبة موجودة في سوريا ومحيطها. وغالبية الذين ينحازون بقوة إلى جانب، ينتمون عملياً إلى افكار او إلى محاور من النوع الإقصائي. لا يعني ذلك ان الدعوة إلى التغيير فيها تعسف، لكن اي تغيير يتجاهل الوقائع القائمة، يكون أشبه بمغامرة غير محسوبة على الاطلاق. وهي حال النظام في المقابل إن هو اعتقد بقدرته على الاستمرار بقيادة البلاد وفق برنامج إصلاحات يقرره من جانب واحد، ويتجاهل ما يريده الناس، وخصوصاً أن اي نظام ترك له أمر الاصلاح، لطالما اختاره وفق آلية تجديد النظام نفسه. وأخطر ما في الامر هنا، أن يكون في النظام من يريد للناس أن يكونوا على دينه فقط.
وبعيداً عن التوتر الذي يزيد القمع الدموي منه، فإن المطلوب في سوريا فعلياً ينحصر الآن في وقف الحملات الامنية، وسحب الجيش إلى الثكنات، وإبعاد الاجهزة الامنية عن حياة الناس اليومية، واطلاق قوانين توفر القضاء الضامن لحريات حقيقية، مع ورشة تغيير جذرية في السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تحدّ من الفقر والبطالة. وهذه الأمور لا يمكن النظام الادّعاء أنه يعرف القيام بها وحده، وأنه لا يريد للآخرين أن يشاركوه المهمة، أو أنه يريد ان يختار من بينهم من يناسبه أو من يتطابق وذوقه الايديولوجي أو السياسي.
ومع ذلك، فإن من الخطورة التساهل مع دعوات معارضين سوريين، أو داعمين لهم، إلى التدخل الخارجي، ورفض قسم كبير من هؤلاء المعارضين إدانة أعمال الإجرام التي تقوم بها مجموعات مسلحة متنوعة الانتماءات والاهداف والغايات. وبدل ذلك، تُرسل الإشارات على شكل تهديد أو استعداد لأن تخرج التحركات عن طبيعتها السلمية، وأن يكون معذوراً كل سوري يحمل السلاح بحجة الدفاع عن النفس، وبالتالي أن يصار إلى خلق بؤر مستقلة عن الدولة والتصرف معها على أنها مناطق محررة، كما جرى أخيراً في حماه، والشروع في سن قوانين للحياة في هذه المدينة، تبدأ بأن قررت مجموعة أنها السلطة البديلة، وأنها من يقرر مساحة الحياة الطبيعية ومن يقرر الإضراب والتظاهر. وبعد أيام من تسلح الشبان بالعصي على حواجز من حجارة، لجأ بعضهم إلى حمل أسلحة فردية مع رفع المتاريس عند مداخل المدينة، بينما كان فريق يستعد في مكان ما لوضع نفسه في حلة القيادة الجديدة.
وثمة صنف من خارج سوريا نهائياً، بل هو من الفئة التي تدّعي موقع المثقف المراقب، ولكنها فئة يصادف، ولا نعرف كيف يصادف، أنها أقرب في كل ما تقوم به وما تفكر فيه إلى السياسات الغربية والعربية المعادية لسوريا، والتي تريد لسوريا نظاماً مختلفاً وموقعاً سياسياً مختلفاً. وهي لا تأبه بحقوق الإنسان، بدليل أنها لم تنطق من عقود بكلمة واحدة عن أنظمة التخلف في الجزيرة العربية، ولم تُدن يوماً بحق جرائم أميركا في العالمين العربي والإسلامي.
إلا أن مشكلة هؤلاء ليست في مطالبهم، بل في كون الجهات التي يناشدونها التدخل تعرف أن الامر ليس بهذه السهولة، ومن يعتقد أن بالإمكان تكرار تجربة ليبيا لا العراق، عليه النظر فقط إلى الخريطة والتأمل… أما التدخّل السعودي فلن يزيد الأمور إلا تعقيداً، بل وربما جنوناً! 

السابق
شيعة الخليج ليسوا «شبيحة»
التالي
التمييز في المعاملة يُحَبِّطُ “المواطن الصالح”