«عسكر وبس!»

 العسكر أثبت فشله في الدول النامية، أقام فيها حكومات وأقرَّ سياسات وصادر حريات وقمع جماعات. خلَّف، إبان حكمه وتسلطه وبعد رحيله، دولاً مدمَّرة.
لا شهادة حسن سلوك واحدة. الذين قدموا من الثكنات العسكرية، بشعارات كرتونية، حكموا بعقول بقياس جزماتهم. تصرفوا مع شعوبهم كخردة قتالية، ثم، لم يمارسوا الحرب ضد أعداء حقيقيين، وعوَّضوا عن عجزهم بشن حرب علنية وسرية مديدة، ضد شعوبهم. وبرغم هذه البيَّنات السياسية التي يراها العميان وهم نائمون، يمكن رصدها في دول أميركا اللاتينية، (مقابر جماعية ونهب للفقراء) وفي دول افريقيا (تبييض العنف والمال وتهريب الثروات الى مصارف سرية أوروبية) وفي البلاد العربية (ولا حاجة للتدليل بالإصبع لاكتشافهم، لأنهم مندسون في تلافيف الدماغ العربي)… برغم هذه البينات، يستمر اللبنانيون، في طلب المعونة الدائمة من العسكر، ذوي السمعة المجهولة وذوي الحدود الدنيا من الذكاء (يعوضون عن نقصهم بعبقرية المظاهر)، وذوي الحظوظ العائلية والأرومات الترفيهية (وفهم القارئ كفاية له).
تاريخ العسكر في السياسة اللبنانية، «فياسكو». صفر على مئة. حتى الجنرال فؤاد شهاب، ذو الرؤية الإصلاحية، أوكل إلى جلاوزته من العسكر والمكتب الثاني، تنفيذ طموحاته في «بناء الدولة». نياته، أجهضت على أبواب حفنة من ضباط، حكموا وتحكموا، برئاسات الحكومات وبوابي الوزارات.
أكلة الجبنة من السياسيين المدنيين، يقاسمون العسكر مائدة الطعام. أكلوا معاً الدولة، وبات الإصلاح يحتاج إلى إصلاح، فجاء أسوأ منه.
التجربة الشهابية خيضت بثياب عسكرية، وشخصيات من رتب أمنية فادحة الذكاء والثراء في تنظيم آليات الاستتباع.
ولما دخل لبنان جحيم الميليشيات، أنجب «نخبة» سياسية طائفية، بثياب الميدان. وتربعت الجزمات (عسكرية، أمنية وميليشياوية) على الوزارات والإدارات والصناديق وبوسطات الانتخاب، وأنجبت حروباً أهلية مع وقف التنفيذ، وحوَّلت الدولة إلى مشاعات مذهبية، مالية، عقارية، جامعية، تربوية، ترعى بالعصا والمال و… نفذ ولا تعترض، واستعانت هذه «النخبة الميليشياوية»، بالعسكر السوري وأدواته الأمنية، فاستباحت الحلال والحرام، و… هكذا، صرنا بلا دولة ولا نظام، ولا…
واستعان هؤلاء، بالاحتياطي الزهيد: العسكر، ذي التجربة الفذة في القعود وما يمت إلى الكسل الوطني بصلة. وصُوِّر للبنانيين أن العسكر من جنس الملائكة، وأن ولاءهم الوطني، لا تشوبه انحرافات مذهبية او طائفية او هلم جراً.
وهكذا، دلف إلى وعي اللبنانيين، أن «العسكر هو الحل». وجاء عسكري رئيساً للجمهورية، وعرفنا في عهده ما لم يتذوقه اللبنانيون من عبقرية سياسية وعناد يكسر رأسه ورأس البلد. وجاء عسكري آخر، في غفلة سياسية عظمى، ثبت حتى الآن، أن الرماد سيد الموقف. هو أفضل الألوان، ويحتمل كل التفسيرات، باستثناء تفسير أساس: الرئاسة فوق الجميع، وفوق الرئيس أولاً. الدستور واحترامه والالتزام به أولاً وقسماً. وكل ما عدا ذلك، لا يعدو أن يكون بسوية «جمهورية عمشيت» البائسة.
نحن في فترة الرئاسة المتأخرة.. والمؤجلة… فإلى متى يا عسكر. وباتت القاعدة الذهبية السائدة في الحياة السياسية المنعدمة تقوم على مبدأ: إذا سدت الطرقات المدنية، بسبب تكالب الطوائف، فاستعينوا بالعسكر.
وحتى الآن، لم نعرف إلا نوعاً من العسكر، يرقى إلى رتبة الحضانة الفكرية والسياسية.
ساعدونا… أعيدوا العسكر الى ثكناتهم والى تقاعدهم المريح والوفير… واتركوا الداخلية واتركوا شقيقاتها، ولا تدعوا عسكرياً يقيم في إدارة…
أريحونا… واقفلوا هذا «البازار»، وأريحوا العسكر، وتمنوا لهم أوقاتاً طيبة، حول طاولات لعب الورق وطاولات الزهر وطاولات الكلام الذي يشبه التأتأة. 

السابق
نفط لبنان (1): مئات مليارات الدولارات مرمية في البحر
التالي
مع الحوار بشروط