رحم الله أم رياض

 قبل سنوات، دخل ميشال كيلو السجن على خلفية توقيعه على إعلان يتمنى أصحابه قيام سفارة سوريّة في لبنان ويرفضون التدخل الخارجي في شؤون المنطقة ويطالبون بحرية وديموقراطية وعدالة ومساواة ومحاربة الفساد. يومها نقل اصدقاء كيلو عنه انه، وهو في طريقه من المحكمة إلى السجن، لم يفهم كلمة من حكم القاضي واعتقد انه كان يوجّه كلامه إلى شخص آخر. «وهن نفسية الأمة وبث المشاعر الطائفية وخلق انقسامات»… إلى آخر ما في جعبة النظام القمعي ضدّ مخالفيه الرأي.
استقبل آمر سجن عدرا كيلو مرحّباً بمَن كان يراه على الفضائيات يصول ويجول ومبدياً اعجابه به. سأله كيف يستطيع ان يخدمه، فردّ «موهن نفسية الأمة» بأن السماح له بالبقاء أطول مدة ممكنة في مكتبة السجن هو أكبر خدمة له. استجاب آمر السجن متمنياً عدم إثارة المشاكل «حتى نقدر نساعدك تطلع بسرعة».
في زنزانة قريبة من زنزانته الرقم 7، كان الكاتب علي العبدالله، رفيق درب كيلو، يمضي ايضاً ايامه في السجن، تارة لأنه كتب منتقداً إيران، وطوراً لانه وقّع على إعلان دمشق، ومرة لأنه قرأ بياناً لحزب سياسي محظور. وكان ايضاً ابنه عمر وابنه محمد الذي تَشارك مع كيلو أوقات المكتبة كونه يحضّر لشهادة الدراسات العليا.
مرت الايام وكيلو يكتب بقلم رصاص على صفحات الكتب ما كان يريد ان يوصله للآخرين، فيقرأه محمد العبدالله ويمحو الكلام ثم يحاول تسريب ما أمكن من أفكار ومواقف كي تتوحد المواقف خصوصاً ان وساطات كثيرة كانت تحصل خلال تلك الفترة من محامين و«محبين» كي يُصدر معتقلو الرأي بياناً يتنصلون فيه من مواقفهم السابقة.
خلال فترة وجوده في السجن، توفيت والدة كيلو، ولم يجرؤ أحد لا من المساجين ولا من السجانة على ابلاغه. وحده رفيق الدرب ابو حسين (علي العبد الله) اقترب منه وحضنه وقال له «العوض بسلامتك يا ميشال، ام رياض عطتك عمرها». تأثر الجميع وخصوصاً ان كيلو كان فخوراً كثيراً بوالدته ويصرّ على ذكر اسمها خلال مرافعته امام القاضي حيث يبدأ الكلام «انا المواطن ميشال بن حنا كيلو وغالية عوض».
بقي علي العبدالله وابنه عمر في السجن، فيما خرج محمد وسرّب رسالة كيلو إلى الضمير السوري والعربي وفيها: «إنني لا أسعى إلى أي مصلحة خاصة، لو كنت أسعى إلى مصالحي لتعاونتُ مع النظام وصرت مليونيراً أو مسؤولاً ككثير من المنافقين والتافهين، لكنني لست والله منافقاً أو تافهاً». هرب محمد إلى بيروت ومنها لاجئاً سياسياً إلى الولايات المتحدة حيث أصبح بحق واحداً من أبرز الناشطين في الثورة السورية. أُفرج عن كيلو، وبعد ذلك بفترة وجيزة توفيت زوجة علي العبدالله السيدة امية عباس نتيجة مرض عضال محرومة من وداع زوجٍ وابنٍ في السجن وآخر هارب في بلاد الله.
انطلقت الثورة. لم يعد ما نادى به المفكرون حبراً في إعلان دمشق، بل صار دماً في حركة التغيير. اختار كيلو خطاً معيناً ينسجم مع قناعاته ولا يتوافق بالضرورة مع خيارات الغالبية. خرج علي العبدالله من السجن، ثم اعيد اليه وأُفرج عنه، فيما الملاحقات مستمرة لاعادة اعتقال ابنه عمر. لم يصدر عن ميشال كيلو أي بيان أو موقف تجاه اعادة اعتقال العبدالله وكثيرين غيره. لم يَقُل ان الحوار الذي يدعو إليه النظام انما هو الستارة التي تخفي ما يحصل في مسرح الجريمة. بقي على الخط الذي ينسجم مع قناعاته.
«هذا الدور الذي يمليه عليَّ حبي لأمتي ووطني، وواجبي تجاههما سيتواصل بإذن الله، فهو واجب لا أعتذر عن عدم القيام به، ولا أطلب المغفرة أو العفو من أحد بسبب تأديته، وهو سيستمر بإذن الواحد الأحد»… هكذا قال كيلو في رسالته – مرافعته.
رحم الله ام رياض… حب، أمة، وطن، واجب، اعتذار، مغفرة، عفو، استمرار. الجميع ينتظر يا ميشال. الجميع ينتظر.
 

السابق
مجتمع دولي بأجندة إسرائيلية
التالي
رسالة إلى المرشد السيد علي خامنئي