فلسطين تغيب وتحضر

غابت فلسطين وغاب الصراع العربي الإسرائيلي عن شعارات الثورات العربية. هذه واقعة لا يفيد إنكارها ولا يفيد تجاهل تحييد الغرب الأميركي والأوروبي في برنامج حركات التغيير. في معظم هذا الحراك السياسي وخاصة في حالات التصادم العنيف تتواصل بعض أطراف المعارضة وتنسّق موقفها مع الغرب. في معظم الأحوال كانت خطوط التواصل مفتوحة مع قيادات في المؤسسة العسكرية والأمن ومع قيادات المعارضة الأكثر تشدداً والتي مارست العنف المسلح.
في سوريا تتظهّر أكثر صورة التدخل الغربي من لقاءات باريس وتركيا ومن أحداث المناطق المحاذية لدول فيها نفوذ مباشر للغرب. لا يفسر هذا كل شيء ولا يطعن في حركات الاحتجاج الشعبية أو في دور المعارضات الديموقراطية التي تنادي بالحرية. فالأنظمة نفسها في كل مكان تفاوض هذا الغرب مباشرة أو بطريقة غير مباشرة على دورها ومستقبلها وهي ليست بريئة من هذه العلاقة فضلاً عن مسؤوليتها عما آلت إليه أوضاع بلادها وأزماتها. غير أن فلسطين بالذات أصبحت في هامش الحياة السياسية العربية فلم تعد أولوية عند أحد من القوى الفاعلة إما انكفاءً عن مواجهة المشروع الغربي الإسرائيلي وإما بوطأة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والإقصاء والتهميش وإلغاء الحريات وتعطيل المشاركة السياسية. إذا ارتبطت هذه المعطيات مع تأقلم النضال الفلسطيني واستقلاليته في الداخل وانخفاض سقف برنامجه لمقتضيات موازين القوى صارت فلسطين على جدول انتظار المتغيّرات العربية والدولية أكثر منها قضية مركزية وملتهبة ومفجّرة للبيئة المحيطة بها كما كانت من قبل.
لا تملك القيادة الفلسطينية اليوم أي أفق يغيّر موازين القوى سوى الحفر والمراكمة على رصيد نضالها وتضحياتها وشرعية حقوقها وفق معايير المجتمع الدولي والقرارات الدولية. في الواقعية السياسية التي تتسع انتشاراً وتتجذّر أمام انسداد الآفاق الراهنة يذهب الفلسطينيون إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لأخذ الاعتراف مجدداً بشرعية حصولهم على دولة مستقلة استناداً إلى القرارات 181 و242 و338، والى إعلان الاستقلال عام 1988. يملك الفلسطينيون اعتراف 117 دولة من أصل 193 تكوّن الجمعية العامة ويحاذرون الذهاب إلى مجلس الأمن حتى لا يواجهوا الاعتراض الأميركي. هم يريدون الاحتفاظ بشرعية حقوقهم في تقرير المصير على الأرض المحتلة التي يعترف باحتلالها المجتمع الدولي. يريدون أن يقطعوا الطريق على مشروع التصفية المتمثل ببعثرة هذا الكيان الخاص بحدود 1967 وتفكيكه وإلحاقه بدول الجوار بعد اقتطاع معظم أرضه وثرواته ومكوناته.
لم يفعل الزمن منذ اتفاقات أوسلو 1993 فعله لمصلحتهم فزاد تخلي النظام الرسمي العربي عنهم وعن قضيتهم وزادوا ضعفاً نتيجة ارتباطهم بمحور من محاور النزاع في ظل سيطرة الغرب الأميركي الأوروبي على الساحة الدولية. دخلت القضية الفلسطينية كلها في النزاعات الإقليمية وتحوّلت إسرائيل إلى جزء من هذا التوازن الذي يعتبره معظم النظام الرسمي العربي مهماً له في مواجهة أطراف آخرين. لم يستطع الدور الإيراني ان يكتسب شرعية عربية ولم يصمد الدور التركي المستجد في دعم الحق الفلسطيني أمام احتمالات بناء نظام «شرق أوسط» يعطيه واجبات ومهمات من ضمن خطة الغرب وليس خارجها.
نحن معنيون بفهم الواقع لمحاولة تغييره. في المخاض العربي الراهن تتغيّر وتتبدل مواقع الأنظمة وأدوارها لكي تقوم مكانها تشكيلات سياسية للشعوب دور أساسي فيها. لن تكون خيارات هذه الدول وهذه الشعوب محتكرة أو محصورة في إدارة ضيّقة للنخب الحاكمة. في هذه الظروف من المبكر الاستنتاج حول الخيارات الوطنية أو السياسات الوطنية وكيفية إنتاجها وكيفية إدارة العلاقات بين العرب أنفسهم ومع الخارج. إذا كان المشهد الراهن يؤكد أولوية المطلب الديموقراطي وتراجع المسألة الوطنية والقومية فهذا واقع فرضه الاستنقاع القطري وسياسات النظم التي كانت أولوياتها السلطة لا الدولة ولا الشعب ولا الوطن. ليست القطرية أو الكيانية هي المشكلة إلا بوصفها البيئة التي ألغت الوطنية والمواطنة لمصلحة سلطات تزداد عزلة عن شعوبها وتزداد تحكماً بثروات بلادها وتسلطاً على مواطنيها وإلغاء حرياتهم واستخدام ثروات البلاد لإدراجها في الاقتصاد العالمي على أساس التبعية لا المشاركة والتنمية.
خلال هذه المرحلة الانتقالية من التغيير السياسي العربي التي قد تطول وتقصر بحسب معطيات كل بلد على حدة هناك مسار مواز على المستوى الاقتصادي له دور مفصلي في مستقبل العرب في دائرة النهب الإمبريالي والتشوهات البنيوية والهيكلية الموروثة. ولا نبالغ في توقّع تصاعد المسألة الاجتماعية وتجذير التحول الديموقراطي والوطني انطلاقاً من الحاجات الموضوعية لحلّها. ليست الديموقراطية السياسية على أهميتها كإطار للحرية والكرامة الإنسانية إلا وسيلة لتوجيه السياسات الوطنية وتعديل توازنات الدولة وتفعيل قدرات المجتمع. لن تكون الديموقراطية نقيضاً أو مقايضة للمسألة الوطنية بل هي شرطها الضروري لرسم سياسات تلائم طموحات الشعوب. ليس هذا الأمر إلا في قلب موضوع فلسطين والصراع العربي الصهيوني وليس الإسرائيلي بالمعنى الحصري للكلمة الذي حوّل القضية إلى صراع حدودي وكيانات بدلاً من أن يكون صراع تاريخ ومصالح أساسية وإرادات. فإذا كان الشعب الفلسطيني لن ينجح اليوم في الاستقواء بالمجتمع الدولي وبمؤتمر دولي كشكل وحيد لاستخلاص كيانه الصغير على أرض 1967 فإن الأفق ينفتح مع كل تحول ديموقراطي عربي، ومع كل تفاقم لمشكلات النظام العالمي الاقتصادية والسياسية نحو الخيار الأرحب وهو فلسطين الموحّدة الديموقراطية.
ولكي لا يكون هذا الكلام ضرباً من التمنيات والإسقاطات، بدأت مراكز أبحاث غربية جدية ومؤثرة مناقشة هذا الاحتمال وفحصه أمام استعصاء حل الدولتين والمخاطر الممكنة في ضوء أوضاع لا تتحكّم فيها المنظومات الأمنية للأنظمة وتعاظم التسلح وانتشاره وتجذّر ثقافة العنف والتديّن واستخدامهما السياسي. فلسطين التي يتراجع حضورها السياسي ليست إلا الفصل الأخير الذي سيندلع من الصراع على المنطقة وعلى هويتها ومصالحها وحريات شعوبها وتقدّمها. لعله التفاؤل التاريخي الذي يصدر عن رؤية تزايد الضغط الإمبريالي على المنطقة وإحدى أدواته الرئيسة إسرائيل. إسرائيل الحاضرة في كل قضايا المنطقة لا يمكن إخراجها من هموم الشعوب العربية.
 
السابق
ثورة بلا إسلاميين
التالي
نصرالله – الجريري : الثقة المستحيلة