العلويون ودولة الباب العالي

الدعابة المصرية خفيفة الظل. تكاد أن تقع على قفاك من شدّة الضحك. الدعابة السورية لاذعة. تشعر بلسعها في الصميم. من التشنيعات التي رُوِّجت ضد الأشقاء المصريين، خلال الوحدة المصرية السورية (1958 – 1961)، أروي إحداها: يميل ضابط مصري كبير على زميله السوري، في أحد مهرجانات الاحتفال بذكرى سلخ لواء إسكندرون عن سوريا وضمه إلى تركيا، ليقول له: «قولّي بَأَهْ. والمرحوم ده اللوا إسكندرون، مات من إمتى؟!».
ببراءة صحافية، سألت في أوائل السبعينات أول وزير خارجية تركي يزور دمشق، بعد قطيعة استمرت أكثر من خمسين سنة، عما إذا كانت محادثته تناولت قضية اللواء السليب. امتقع وجه الوزير غضبا. وبدا كأنه يمضغ شيئا في مؤتمره الصحافي.
وسارع مسؤولو الأمن المتنكرون في إهاب الصحافيين، إلى تقديم اعتذار للوزير بالقول إن السائل (الذي هو أنا) ليس سوريّا. إنما هو مراسل لوكالة أنباء أجنبية. وكان الاعتذار بمثابة تأكيد على أن الرئيس حافظ الأسد طوى صفحة الأرض السليبة، رغبة في التوصل إلى حل لقضايا الإقامة. والجنسية. وأملاك السوريين والأتراك المجمدة على طرفي الحدود.
لم يحدث لي مكروه. فشبِّيحة الابن الذين يعيثون فسادا في هذه الأيام، لم يكونوا قد ولدوا، بعد. للوقاية، سارعت إلى العودة إلى بيروت، حيث كنت أعمل.
لكن كيف «مات» اللواء إسكندرون؟ أسارع إلى نفي «سلخه» على أيدي شبيحة الأب والابن. إنما أقول باختصار إن فرنسا سلمته إلى تركيا في عام 1939. كان الغرض إرضاء تركيا، كي لا تنضم إلى ألمانيا الهتلرية في الحرب العالمية التي كانت على الأبواب.
انفجرت فورا عواطف الشارع السوري آنذاك ضد فرنسا المنتدبة على سوريا. أطاحت الاحتجاجات الشعبية بسلسلة حكومات سورية. ثم أجبرت الرئيس هاشم الأتاسي على الاستقالة. وكان الأتاسي وقع معاهدة استقلال ناقص، في باريس مع حكومة ليون بلوم الشيوعية – الاشتراكية (1936). بحجة حماية الأقليات، فقد تضمنت ملاحق المعاهدة نصا، يحتفظ للواء الساحلي بوضع خاص، هو و«دويلة العلويين». وكانت هذه الدويلة الأثر الوحيد الباقي من تقسيم سوريا إلى عدة دويلات، منذ بداية الانتداب الأجنبي، في أوائل العشرينات.

كان العلويون أشد السوريين تعجبا واحتجاجا على تركيا وفرنسا. فلواء إسكندرون كان يعج بالعلويين. بل كانوا راضين عن الحماية الفرنسية لهم، إلى درجة أن زعماءهم وقعوا وثيقة مشهورة تصرّ على بقاء دويلتهم، خارج الدولة السورية المستقلة.
بعد سلخ إسكندرون، بدأت هجرة واسعة للعلويين والمسيحيين العرب، منه إلى سوريا. فاستقبلوا استقبالا أخويا حسنا. بل كان المسيحيون أسبق في الهجرة. وكانت الكنائس المشرقية الخمس (العربية) هاجرت من مقرها التاريخي في أنطاكيا إلى دمشق، رفضا للبقاء تحت الحكم التركي لإسكندرون. وفي مهارة الأسد في حبك التحالفات، فقد شكل حلفه مع كل من بطريرك الكاثوليك والأرثوذكس عونا كبيرا له في لبنان، وإحراجا مثيرا لرعيتها هناك الذين انحاز بعضهم إلى الموارنة.
توزع العلويون المهاجرون على جبال محافظة اللاذقية ومدنها الساحلية. ثم في مدن وقرى جبل الزاوية، في إخاء رائع مع السنة الذين يتقاتلون معهم هذه الأيام. وامتدت هجرتهم إلى الوسط (حمص وسهل الغاب). ووصلت جنوبا إلى الجولان، حيث ما زالت قرى علوية تحت الاحتلال الإسرائيلي، مع القرى الدرزية هناك. وأقول إن اللبنانيين لا يعرفون أن قرية الغجر التي يثور نزاع لبناني إسرائيلي حولها، هي قرية علوية.
غير أن تمرد إحدى العشائر العلوية أثار حفيظة نظام شكري القوتلي. وكان تسرعه في شن حملة عسكرية على الجبل العلوي. واعتقال شيخ العشيرة. ومحاكمته. وإعدامه، خطأ فادحا، أثار بدوره حفيظة العلويين. لكن الزعيم الاشتراكي المعارض أكرم الحوراني، سارع إلى إرضائهم، بتسهيل انضمام شبابهم إلى الجيش، تحت راية «البعث». وعندما أدرك هو الآخر خطأه التاريخي، كان الأوان قد فات. فقد هيمنوا على الجيش. ثم أقاموا منذ منتصف الستينات نظاما طائفيا، دمَّر نسيج سوريا الوطني، وصولا إلى المحنة الدموية الراهنة.
تمكن الأسد من إقامة علاقة دبلوماسية طبيعية مع تركيا، ساعدت على حل القضايا المعلقة. غير أنه ما لبث أن تورط في نزاع خطير معها. ففي نزوعه الطائفي، آوى منذ الثمانينات عبد الله أوجالان الزعيم الكردي العلوي المتمرد على تركيا. وفتح له مراكز تدريب في البقاع وسوريا. وسمح له بالتسلل عبر العراق، لشن «حرب تحرير» كلفت الأتراك والأكراد أكثر من أربعين ألف قتيل.
عندما أخفقت تركيا في حل القضية دبلوماسيا، حشدت قواتها في عام 1998، مهددة باجتياح الشمال السوري الذي كانت تطالب بضمه منذ العشرينات. هنا، لعب الأسد الابن دورا في إقناع الأسد الأب الذي أنهك المرض قواه العقلية، بالتخلي عن أوجالان. وبالفعل، طرد أوجالان. ثم اعتقل. وحوكم. ولولا التزام تركيا أمام أوروبا، بإلغاء الإعدام، لتم إعدامه.
ما زال هناك عرب في تركيا. معظمهم علويون وسنّة في إقليم هاتاي (إسكندرون سابقا). وبعضهم في جنوب شرقي تركيا. وزوجة الزعيم التركي، رجب طيب أردوغان عربية، من تلك المنطقة. والعرب في تركيا لا يتمتعون بحقوقهم الثقافية. غير أنهم متمسكون بعروبتهم. واهتماماتهم السياسية عربية خالصة.
العلويون الأتراك والأكراد يفوقون عددا العلويين العرب في تركيا. ليس هناك إحصاء رسمي. التقديرات شبه الرسمية تصل إلى عشرة ملايين علوي تركي وكردي. قبل قيام نظام أردوغان القومي ذي الطابع السني المعتدل، كان العلويون هناك أقرب إلى اليسار العلماني. شكلوا حزبا سياسيا. أخفق في الانتخابات. فتحولوا إلى إقامة منتديات ثقافية تحمي وجودهم وتقاليدهم في هضبة الأناضول التي تعود إلى مئات السنين، من حياتهم في ظل «دولة الباب العالي» السنية.
نظام أردوغان لا يعتبر العلويين الأتراك والأكراد طائفة دينية، إنما مجموعة ثقافية تملك حرية ممارسة شعائرها الدينية بسرية. لكنّ العلويين الأتراك لم يكونوا راضين عن إيواء أردوغان للاجئين السوريين السنّة. فهم يعتبرونهم خصوما ألداء للنظام العلوي في سوريا.
هل دمرت الانتفاضة السورية مشروع أردوغان المشرقي؟ لا. إنما دموية نظام بشار في التعامل معها، هي التي تحرج صديقه التركي الحميم، أمام العرب والأتراك. فبعد يأسه من أوروبا التي تريد تركيا جنديا في الناتو، وليس عضوا مسلما في نادٍ مسيحي (الاتحاد الأوروبي)، استدار أردوغان نحو الشرق، ليقيم سوقا اقتصادية مشابهة للسوق الأوروبية، مع العرب (سوريا. العراق. لبنان. الأردن).
فشل المشروع، إذا ما قوّضه النظام العلوي السوري، سوف يثير شماتة أوروبا وأميركا بأردوغان. فقد سبق لهما تحذيره من تعويم بشار، وإخراجه من عزلته الإقليمية والدولية.
من هنا، كان ضغط أردوغان شديدا على بشار، للكف عن الممارسة الدموية، والعودة إلى علاقته الحميمة مع تركيا، على أساس ديمقراطية سورية مشابهة للديمقراطية التركية. بيد أن بشار يتعرض إلى لوم زعماء وقادة حزبه. طائفته. وأجهزته. فهم يتهمونه بإدخال «حصان طروادة» التركي الذي بات يهدد النظام العلوي السوري، بأكثر مما تهدده مصر. أو دول الخليج. أو أوروبا. وأميركا.

 

السابق
سفن حربية إسرائيلية تحاصر السفينة الفرنسية المتجهة إلى غزة
التالي
كتلة المستقبل تنعقد اليوم برئاسة السنيورة