عنف في الشارع

عند مدخل شارع الحمراء، تتربص دورية أمن بركّاب الدراجات النارية المخالفة، تصادرها منهم. يظهر "دركيّ" بلباسه الرسمي هارعاً خلف شابين بالكاد تحملهما الآلة المسكينة التي تئن أسفلهما، وهما يحاولان الاستدارة والفرار. خطواته أسرع من عجلتيها، يسحب المفتاح من معقله، فيسحب أحد الشابين هاتفه الخلوي من جيبه، وتبدأ الرحلة المعتادة بين "المدني" و"العسكري" والكامنين بينهما. عند أعلى الطريق، يغمز عنصر من قوى الأمن، بملابسه العسكرية وسلاحه يتدلى من كتفه، راكبين آخرين لدراجة كئيبة أخرى. يستديران قبل الوقوع في شرك الحاجز بأمتار. وقبل أن يقلعا بالاتجاه المعاكس، يحييان باليد العنصر، من باب الشكر، فيرفع لهما حاجبيه، رافضاً التحية كي لا ينكشف أمره أمام زملائه. ملامح الرجل ليست طيبة، وإنما تميل أكثر إلى الرغبة بالانتقام من كل نظام، حتى ذاك الذي يمارس هو سلطته. فكان تصادف المرور إلى جانبه، وهو "يمارس" الخروج عن قواعد عمله، سبباً للتوجس، وليس للابتسام. على موقع "يوتيوب"، يدخل رجل متسلحاً باسم "حزب البعث" إلى صيدلية في صيدا، ساعياً لافتعال مشادة. وبالفعل، يرفع الصوت، يطرد الزبائن، يهين الموظفة التي تراجعت أمامه خشية من يديه وأيدي زملائه التي طالت زميلها، يلقي بالأدوية كيفما اتفق على الأرض، تنقل شاشات المراقبة صورته، تعرضها شاشات التلفزيون، ويتم تبادلها على المواقع الاجتماعية، قبل أن يخرج الرجل، لاعناً دينها، حارقاً أعصابها، مسبباً لزميلتها بانهيار على الأرض، نافشاً ريشه، رافعاً رأسه. مرعبةٌ فكرة وجوده في الشارع، الآن وهنا. قبل أيام قليلة، الآن وهنا أيضاً، وبدلاً من صيدا، كانت بيروت، وبدلاً من "البعث"، كان حزبٌ شبيه، وبدلاً من الدواء، كان السير. يريد الرجل أن يغيّر الطريق التي بات في منتصفها، وعلى السيارة التي وضعها سوء حظها خلفه، أن تعود إلى الخلف، حتى التقاطع، لكي يغيّر وجهته. وجهته قابلة للتغيّر، إن تقدّم لأمتار قليلة، ودخل من مفرق مواز، لكنه يريد العودة إلى الخلف، هو حرّ. عندما اعترض سائق السيارة الماثلة وراءه، ترجّل هو من السيارة، وتجمهر بثوانٍ حوالى عشرين من عناصر حزبه المنتشر عفوياً حول مركز الحزب. صاحوا بالمواطن الذي تلقى اللكم والسباب، وهو خلف مقوده، خبطوا بالأيدي على السيارة، هزّوها، رفعوا الشتائم إلى أعلى درجات التوتر، سألوه عن السبب الذي يجعله يهوى "أكل القتلة"، كما ضحكوا إلى أقصى حد عندما همّ بالتقاط هاتفه ليطلب قوى الأمن الداخلي. أبلغوه أنهم سيوسعون عناصرها ضربا عندما يصلون، تماما كما سيفعلون معه الآن إن لم يتحرّك. تحرّك الرجل بسيارته، لكنه بدا جلياً أنه سينام الليلة وهو فاقد لاحترامه لنفسه، في بيته، بين أفراد عائلته. هذا الرجل، تعرّض للإهانة والضرب، بلا سبب. أما أقصى درجات السخرية في القصة فتكمن في وهم يعيشه عناصر الحزب المعني، يفيد بأنهم من مدمني أخلاق عامة، إذ كثيراً ما رددوا بين الشتيمة والأخرى، أنهم يتحدثون إليه "بالذوق" الآن، وأنهم هواة سلام لا يرغبون بضربه، فلمَ يستفزهم؟! أما عند شاطئ البحر، وتحديداً في أحد نوادي السباحة البيروتية العريقة الشهيرة، فلا يحمي المدير الفتيات من الرواد من التحرّش الجنسي الذي يمارسه بحقهن مدرّب الغطس الستينيّ. وعلى العكس من ذلك، يلجأ إلى اتهامهن بالدعارة، وبالتحرّش بالمدرّب.. علماً أن الفتاة التي تعرّضت للتحرّش، وهي أجنبية في زيارة أكاديمية إلى بيروت، قد تعرّضت لخطر الموت بسبب تحرّش المدرّب المنظم، الذي وصل إلى حد أنه لم يملأ قارورتها بالأكسيجين، عن عمد، لتلتصق به. وانتفضت "الشهامة العربية" في وجه الفتاة، تماماً كما انتفضت "الشهامة الوطنية" لدى الدركي في وجه القانون، تماماً كما انتفضت الشهامة الحزبية لدى العنصر في وجه الموظفة في الصيدلية، تماماً كما انتفضت الشهامة الأخلاقية في وجه رجل يأبى إلا أن "يأكل قتلة"، تماماً كما تجري الحياة في لبنان، في هذه الأثناء. يومياً، يتفوّق منطق القوة على القانون، في لبنان. والقانون لا يطبّق إلا بالقوة. فالعنف هو ميلٌ بشريّ، أوصل في مرحلة ما إلى اختراع "العدل"، بهدف ضبطه عن طريق انتزاعه من الأفراد، ووضعه في يد مجموعة مختارة ومنتظمة. وفي ظلّ غياب "مجموعة مختارة ومنتظمة" متّفق عليها، يتفكك المجتمع إلى أفراد، كل فيه مسؤول عن نفسه، وعن أمنه. ومن بين هؤلاء الأفراد مَن يعود ليذوب في "جماعة"، حزباً كانت أو جنساً أو عصابة، يستمد من "قوتها" نفوذاً يمكّنه من إطلاق العنان لرغباته ونزواته وحاجاته، وفرضها على الآخرين، الذين ليست لهم جماعة، بالاعتداء، أو بالترهيب، أو بترسيخ الأمر الواقع. إنها دائرة خانقة، ومُحكمة، تجد ما يستمرّ في تغذيتها دوما في كل وجه من وجوه العيش هنا.. هنا، في مجتمع الحرب الأهلية، الذي أنتج، مراراً بالانتخاب، "دولةً" لا يقودها سوى مجرمي تلك الحرب الأهلية أنفسهم.

السابق
عَدوان لميقاتي: هل تعلم مضمون الـ 1701؟
التالي
تركيا ليست النموذج للديموقراطية