كليلة اللبناني يلتهم دمنة العربي

في كتاب "كليلة ودمنة" ترد قصة طير العلجوم الذي هرم وطعن في السن ولم يستطع صيد السمك، فمر به سلطعون وسأله عن سبب كآبته، فقال له إن صياداً سيمر ببركة الماء ويصطاد كل الأسماك التي فيها، فذهب السلطعون إلى السمك ليخبرهم بذلك، فأتوا ليستشيروا الطير الذي اقترح عليهم أن ينقلهم إلى بركة أخرى ليمنع الصيادين من الوصول إليهم، بدأ العلجوم بنقلهم وصار يأكلهم، ليصل الدور إلى السلطعون الذي اكتشف ما قام به العلجون فقتله ونجا بنفسه ومن تبقى من الأسماك.

قصة العلجوم والأسماك والسلطعون قد تشبه إلى حد بعيد قصة الشعوب العربية مع ظروفها الحالية، فالصياد والخوف منه هو أمر يتراءى لهذه الشعوب كل يوم، ويحضر الصياد بين ليلة وضواحيها، والصياد القاتل هو حقيقي وموجود وليس كذبة في حالة العالم العربي، ولكن العلجوم العربي يستمتع دائماً بتخويف الناس من الصياد، أي أن ما يحدث هنا في هذه البلاد هو قضاء وقدر متساويان يؤديان دورهما في التهلكة التي لا تبقي ولا تذر.

والبدء في الحديث من واحدة من قصص "كليلة ودمنة" ليس للهرب من قول الواقع، ولكنه لشرح الواقع بما يتناسب وظروفنا المحيطة من سوريا إلى اليمن وليبيا ومصر والبحرين وغيرها من الدول العربية. فما يحدث في هذه الدول من انتفاضات شعبية ليس وليد صدفة، والحراك الشبابي الذي استطاع أن ينتج أسمى الثورات السلمية وأكثرها تنظيماً (عدا الحالة الليبية لأسباب تتعلق بظروف ذلك البلد)، هذه الثورات كانت تعيش كالسمك الذي ينتظر العلجوم كي يأكله، ولكنها استطاعت الانقلاب عليه وصناعة واحدة من أكبر التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في العالم، والتي ستعطي صورة مختلفة خلال السنوات القادمة وليس في الوقت الحالي فقط.

هذا في العالم العربي، أما في لبنان فبالتأكيد توجد قصص أخرى في "كليلة ودمنة" تستحق أن تروى حول الظروف اللبنانية الحالية، قصص كثيرة توحي بالإنقلابات والتغيرات وبيع المبادئ وشراء النفوس وتهديد البعض والانقلاب أساساً على مقررات طاولة الحوار واتفاق الطائف ولقاء الدوحة، بداية من استعمال السلاح على المواطنين والناس ومحاولة جرّ البلد إلى حروب أهلية وبعدها استعمال التهديد والوعيد في صيغتها الأوضح "القمصان السود".

قبل أشهر من اسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري، كانت الظروف توحي بأن التوجهات لدى قوى الأقلية يومها تتجه إلى "تفجير" جلسات مجلس الوزراء من خلال مجموعة من الملفات "المركّبة" والمصنّعة، مثل ما يسمى بملف شهود الزور، نجح التطرف في جرّ البلد إلى حائط مسدود من خلال الاستقالات التي نجحت بالعبور إلى "سرقة" البلد مع أحد أبرز وجوه "الاعتدال" والذي تبين أنه متطرف أكثر من غيره، ولهذا الشخص أيضاً يمكن أن يجد المرء في كليلة ودمنة قصة تشبهه بالكامل من دون نقصان.

هذه المرحلة الإنقلابية السوداء من تاريخ لبنان والتي ستبدأ من هذا الاسبوع أعمالها الكيدية والمتطرفة لضرب وجود قوى 14 آذار في الدولة إضافة إلى محاولة ضرب المحكمة الدولية، لا يمكن مواجهتها من دون التفكير جدياً بدور الشباب اللبناني في صناعة الحدث، فالشباب اللبناني الذي استطاع في كثير من الأعوام مواجهة سلطة الوصاية السورية ومعها الجهاز الأمني المشترك، يستطيع الشباب اللبناني هذه الأيام أن يصنع أيضاً ثورة ناجحة وقادرة على التغيير، فهو كما كل الشباب في العالم العربي لديه القدرة على إنتاج التحركات الأنجح إضافة إلى قدرته على التواصل السريع الأكثر حنكة من الطرف الآخر، كما أنه يملك أسباباً كثيرة ليواجه حكومة "توتاليتارية" تحاول ضرب المبادئ الحرة التي يقوم عليها لبنان.

فحكومة تحاول ضرب القطاع الخاص وتأبيد سيطرة بعض العائلات على البلد وطرد القدرات الشبابية العاملة التي لديها مشاريعها وأفكارها الخاصة التي تصنع تطوراً في لبنان، ستجد بالتأكيد مئات آلاف الشبان يعملون لمواجهتها من ضمن القوانين ومن ضمن ما يمنحه لها الدستور من حقوق. والنماذج التي قدمتها قوى الرابع عشر من آذار في الحكومتين السابقتين من خلال طريقة تعاطيهم مع المؤسسات التي أنشأها شبان لبنانيون وخصوصاً في مجال الاتصالات تظهر أن الشبان اللبنانيين قادمون على مواجهة حقيقية مع سلطة لا تضع حساباً لما وضعوه من أجل خدمة بلدهم، قد تسبق هذه المواجهة حتى تحرك قوى 41 آذار في مواجهة حكومة الانقلاب.

ولذلك، حينما تحدث أول من أمس الرئيس سعد الحريري عن الوضع والظروف التي رافقت الانقلاب الأسود، وأوضح للبنانيين ما حدث خلال أشهر طويلة من محاولاته وضع لبنان فعلياً على خارطة الهدوء، فهو بيّن النقاط التي تمظهر عليها الخلاف كما بيّن نقاط الكذب التي استند اليها الطرف الآخر ليوحي أن انقلابه هو أمر طبيعي وعادي. هنا علم شباب لبنان أن بإمكانهم التنفس لأنهم لن يكونوا وحيدين في الدفاع عن النموذج المختلف في المنطقة، بل سيكون بإمكانهم أيضاً الوقوف مع الشباب العربي في ثورته رفضاً للديكتاتورية.

فالرئيس الشاب والذي وضعه القدر في أسوأ اللحظات والظروف بعد استشهاد والده لتحمل عبء أكبر من قدرة الوطن، لم يتراجع عن حمل هذه المسؤولية ولم يتوقف عن مد يده والدعوة إلى تلاق داخلي يتخطى الألم العام والشخصي، ولكن كما ظهر طوال الفترة الماضية وكما أوضح الحريري، فالطرف الآخر وبمساعدة سورية أراد أن ينهي فكرة 41 آذار ويقضي عليها، وأراد أن يغلق "بيت الحريري" بما يعنيه ذلك من استهداف قوى سياسية وجمهور كبير آمن بالخط الذي أنشأه الرئيس الشهيد رفيق الحريري.

حين أطل الرئيس سعد الحريري أول من أمس على التلفزيون وتحدث بهدوء ووضوح، كانت لحظة تآلف بين قيادي شاب وشبان انتظروا منه أن يقول لهم ما يحدث من حولهم.

السابق
بناء المساجد والحسينيات… بدل فرص العمل
التالي
الاعتداء البحري الاسرائيلي مناسبه لتكريس اجماع وطني