إبراهيم قاشـوش: عصفور في الثورة

إبراهيم قاشوش مغن شعبي جدا. أطرب احتجاج المتظاهرين في حماه، وردد محتجو المناطق الأخرى كلمات أهزوجته «سوريا بدّها حرية». اعتقلوه، ثم وجده أهل حماه مقتولاً ومرمياً في نهر العاصي. قالوا إنه نُحر، وتقصّد قاتله النيل من حنجرته.
كان باستطاعة إبراهيم قاشوش أن يغنّي أي شيء. هي حرفته أن يقلب الكلمات كما يشاء، ينال منها السجع، ولديه الإيقاع يمطها أو يقصرها، قبل أن يكرّر لازمته: «ويالله إرحل يا بشار». في غير وقت، كان يمكن لهذه اللازمة أن تكون «ونحن رجال يا بشار»، أو ما شابه. إبراهيم مغن شعبي، بلدياتي، وشغله لا يصحّ إن لم يُرض الشعبية. عمله أن يترصد الشائع، ويجد له مقابله في اهزوجاته. ويمكن للأهزوجة نفسها أن تبقى، وكل ما يتغير هو المحتوى: يمكنها أن تكون أغنية غرامية، وفقط باستبدال كم كلمة تصير أغنية وطنية: غرام بالبلد، أو في حب الرئيس، أو في مقته كما رسا أخيرا.

في الفن الشعبي لا يصير المغني مغنيا ما لم ينتش به الجمع. وفي حفلات الأعراس، وملحقاتها، لا شيء ينشي أصحابها وأعيانها، أكثر من سماع اسمهم وقد صارت كلمات الأغنية تلمّعه وتنفشه. هكذا يطرب الناس للمغني ويطرب لهم. أن يشعروا أن هذه الأغنية وكأنها لم توجد قبلهم، وأنها خلقت في اللحظة لأجل عيونهم. لأجل عيني أبو أحمد، ولأجل أبو عيسى شيخ الشباب، ولأجل كلّ من يطلبه لحفلة. يمكنه أن يغني لشيوخ القبائل، وفي أعراس أعيان اليسار ومثقفيه: لا فرق عنده، وسيجد بحذاقته الفطرية كلمات تصطاد رضى المتناقضين. لن تقف في وجه غزْليّاته إيديولوجيا.

لم يفعل إبراهيم غير ما يفعله عادة. لم يغيّر عاداته. كل ما هنالك أن العرس الشعبي هذه المرة كان كبيرا، ويمكن أن نتخيّل الرهبة التي أحسّها وهو سيقابل حشدا كهذا. لأول مرة، على الأرجح، في حياته سيكون أمام نجومية وشعبية بهذا الحجم. بدون شك هي فرصته، وهو كان لها. كل ما هنالك أن العرس، هذه المرة، كان ثورة. وماذا في إمكان إبراهيم أن يفعل؟! الهتافات لم توفّر أحدا، ولم تترك لفظة غضب أو وصمة إلا وصبّتها. ولا ينفع نمطه الشعبي المسايرة والسياسة: إذا لم يسبق الجمع، ولم يترجم حماسته ويقودها إلى ذروة وانتشاء، فما نفع غنائه؟ إذا لم يصعّد، فلما وجوده في الأصل. إبراهيم كان لها. لقد ألهب جموع المحتجين بأهزوجته: «سوريا بدّها حرية».

لقد ضرب عرض الحائط كل رصانة ورزانة، وكان من الصعب على أحد سماع ما يغنّيه بدون أن «يكركره». بدون أن يضحك من خلاصة البساطة ومشاغباتها. كغيره، جنّد إبراهيم اتهام «المندسين» للسخرية. حشد مفاصل الاحتجاج بخفة. ثم، وفي أي مكان في العالم كثيرون يلدغون ببعض الأحرف، ورئيس الجمهورية يلدغ بحرف السين، وإبراهيم وظّف ذلك في سياق القافية والمعنى الذي يريده المحتشدون حوله. إنهم يطلبون ذلك، وهو ليس ابن حرفته إن لم يلبّهم. ليتم رسم كاريكاتوراته الشعبية كان في إمكانه أن يستخدم صفات جسدية أخرى، لو لزم السياق والقافية. ما هذه القصة العظيمة. كان بإمكانه فعل ذلك.. لو لم يخطف شبابه شلّة من المجرمين المهووسين. عندنا لا يقبل سدنة السلطة وعابدوها أن ترسم لهم كاريكاتورات. مع أنهم لو جالوا في بعض الأنحاء، لوجدوا أن من رسمهم حبا فيهم، من رسامي الدرجة العاشرة، لم يقدموا إلا كاريكاتورات لهم.

قيل إنهم حزوا عنقه وتقصدوا حنجرته. لا نعرف من قتل إبراهيم بالشكل. قالوا إنهم وجدوه في النهر. رأينا صورا أخرى معبرة: تلك التي فيها تلبط وترفس مجموعة سفلة على وجوه ناس مقيدين. يصيحون بهم غاضبين وغير مصدقين: «بدك حرية.. بدك حرية آه». لم نر من قتله، لكن لو كان بين من أمر بالقتل، أو من نفذه، ذرّة عقل، وشوائب من الحساسية الإنسانية، لفرط من الضحك في حضرة إبراهيم. لكان تركه، بدون أن يخطر له هذا الانتقام الوحشي.

دخل إبراهيم في سياق أكبر منه. تصدّى لثورة بدون أن يغيّر في عدته الشعبية. لم يحتشدوا من حوله ليرددوا ما يصدح به وهم منكمشو الوجوه ويقطرون حقدا: لقد كان يصفرّون، وينتظرون كلمة بعينها كي يضحكوا بدورهم. كلمة فشّت غضب من حوله فكانوا يهتاجون لسماعها: «طزّ فيك».

كان السياق أكبر منه: عندما تصير الثورة أغنية شعبية، يعرف الجميع أنها صارت من أهل البيت السوري. صارت علائم استقرارها فيه بادية. صارت تعيش مواطنيته، تتغبّر بالشارع، وتترونق في احتفالاته البلدية، وتصدح.. تصدح في الساحات. صارت بهذه الألفة التي أنتج معها إبراهيم فواصل ترفيهية لها، وأعطى المحتجين ما يشدّ همة دبكتهم. ربما انطلقت جريمة قتله من هذا الاستنتاج، لكن مرض قتلته يرجح أنهم لم يحتملوا خطيئته: لقد دنّس الأسماء المقدسة للسلطة.

لو كان فيهم شوائب رحمة إنسانية لفهموا أنه أخذ الأسماء إلى ما تقتضيه الأهزوجة، وبما يتفق مع هوى طالبيها وعرسهم. ربما لم يجدوا لإبراهيم تهمة قابلة للفبركة، كأن تكون حنجرته، مثلا، الذراع الفنية للعصابات المسلحة. نحروا حنجرته ورموه في النهر.
تمرّ رموز، لا يفهم بشريّ كيف تقتل، كأن من وقع عليها ضوارٍ لا بشر مثلنا. لا يزال حمزة الخطيب في ابتسامته التي تترقرق في كل مكان. لا يزال غيره. ورؤية إبراهيم مسلما الروح تصعب أن تمرّ بدون أن تدور في الرأس أهزوجته. من حزنوا لموته رفعوه في مراتب النضال، وقال آخرون: لقد قتلوا عندليب الثورة. كان مسلما الروح مثل عصفور بكل ضعفه وقلة حيلته. كل ما يجيده هو التغريد. كان مثل عصفور دخل بشجاعة على ثورة، وخرج منها عصفورا مذبوحا.

السابق
فتفت: الاشكالية الأساسية هي السلاح وتحركات قوى المعارضة ستكون سلمية
التالي
إما خلع النقاب .. وإما السجن!