الحريري معارضاً: هل سيبقّ البحصة؟

لأن الشياطين والملائكة، حسب المقولة الشعبية، ضدان لا يلتقيان، بل ينصرف أحدهما إن وصل الآخر، لم يجد الرئيس الراحل رفيق الحريري بدا من الانصراف من السلطة بعد انتخاب العماد اميل لحود رئيسا للجمهورية في العام ثمانية وتسعين.

ليس مهما هنا ولا ممكنا في أي حال تحديد الملاك والشيطان وخصوصا أن الانقسام اللبناني حول كل شيء لا يستثني حتى جنس الملائكة والشياطين وأصولهم وفصولهم؛ لكنّ المهم والمتفق عليه بين خصوم الحريري الأب قبل حلفائه، هو أنّ الرجل أثبت أنّ الضربة التي لا تميت تزيد متلقيها قوة، وأنه خاض بنجاح معمودية المعارضة، فتمكن من تحويل خروجه من السلطة من الباب الضيق الى فرصة لإعادة الدخول اليها من البوابة الأوسع – بوابة الانتخابات – إذ لم يكد صيف العام 2000 يحل، حتى امتلأت صناديق الاقتراع بلوائح اسقطها اصحابها "زي ما هيِّ"، معلنين مبايعتهم "تيار المستقبل"، ومكرّسين رفيق الحريري زعيما سنيا أولا، بل أوحد في لبنان، وخصوصا مع الهزيمة بالضربة القاضية التي تعرّض لها رافعة المشروع اللحودي بين ابناء الطائفة السنية أي الرئيس سليم الحص، هو الذي دفعته الخسارة الكبيرة، وبفارق عشرات آلاف الأصوات، أمام المرشّحة المغمورة آنذاك غنوة جلول، إلى اعتزال العمل السياسي اعتزالا أثبتت الأيام أنه نهائي.

نجح الحريري إذاً في نهاية "حرب السنتين" التي خاضها في أن يعود إلى الحكم، مع أنّ – أو ربما لأن – السلطة التي اصطلح لاحقا على تسميتها بالسلطة الأمنية اللبنانية السوريّة تعاطت معه ومع فريقه السياسي والأمني بكثير من الكيديّة الممزوجة بالسذاجة، فلم تجد سبيلا لمحاربة الفساد إلّا في محاربة المحسوبين عليه داخل الإدارات العامة، فسجنت بعضهم (عبد المنعم يوسف مثلاً)، وحوّلت بعضهم الآخر، بمن فيهم وزير المالية في تلك الفترة فؤاد السنيورة، إلى مشاريع مساجين.

أيا يكن، فإنّ الحريري الأب الذي اتقن لعبة المعارضة، كما اتقن لعبة السلطة، كان يأمل، عندما قال "نعم للتمديد" ومشى، في أن ينجح في تكرار سيناريو العام 2000، لكنّ يد الاغتيال لم تمنحه فرصة العمل على تحقيق أمله، ليفرض هذا التطور الدراماتيكي على آل الحريري (في اعتبار الأحزاب في لبنان عائلية قبل أي شي آخر) البحث سريعا عن وارث يكمل المسيرة. فكان بهاء الدين خيارا أولا، إلا أن الابن البكر لرفيق الحريري، ولسبب أو لآخر اختفى فجأة بعد ان وقف بين المشيّعين نهار الخامس عشر من شباط محاولا تهدئتهم فلم يجد ما يقوله إلا جملة "يا قوم… يا قوم… بهاء الدين يتكلم معكم"، فبدا الشق الأول من جملته القصيرة تلك منتميا الى زمن أصنام اللات والعزّى فيما بدا الشق الثاني منسوخا من تعريف قباطنة الطائرات بأنفسهم في بداية أي رحلة.

وبغضّ النظر عمّا إذا كان ضعف القدرات الخطابية سببا في قرار استبدال الرجل بأخيه سعد، علما أن الأخير لم يتأخر في إظهار أن "الحال من بعضه"، فإنّ المهم ان كرة النار وصلت الى "محسوبكم سعد".

استلم الشاب القادم من مكان بعيد من السياسة دفة القيادة، معوّضا من ضعف خبرته بالاتكال على توجيهات الحلفاء، وأولهم النائب وليد جنبلاط، فكان أن أوصلته تلك التوجيهات الى بر الأمان السياسي حينا،

وكادت تغرقه في أحيان أخرى (كما في السابع من أيار).

المهم الآن أن أعواما ستة مرت منذ دخول الحريري معترك السياسة.

كل تلك الأعوام أمضاها الرجل موجودا في قلب السلطة، مباشرة حينا، ومداورة أحيانا أخرى.

من المؤكّد أنه ليس من مصلحة الرجل أن تقارن سنواته الست بسنوات والده في الحكم بين العامين اثنين وتسعين وثمانية وتسعين.

لكنّ ما مضى قد مضى، والمهم ما سيأتي. فبين اليوم وموعد الانتخابات النيابية عامان تقريبا، وبإطلالة سعد الحريري اليوم على شاشة الـ"ام.تي.في"، سيدشّن عمله كرئيس للمعارضة.

وإذا كان اختياره المحطة التلفزيونية المعروفة التوجّه السياسي دلالة بحد ذاتها، فإنّ الدلالة الكبرى هي في ما سيقوله من كلام وخصوصا اذا ما صحّت تسريبات المقرّبين منه بأنه، وعلى طريقة حليفه السابق "سيبقّ البحصة" وسيقول في "حزب الله" وسوريا ما لم يقله مصطفى علّوش ولا محمّد كبّارة.

لم يعد سعد الحريري وافدا جديدا على عالم السياسة. وإن كان له الحق بأن يخوض معركته كما يشاء، فلعلّ عليه أن يدرك أن الحلفاء قبل الخصوم لن يرحموه إذا جاءت المقارنة بين عاميه في المعارضة وعامي والده لمصلحة الأخير أيضا.

السابق
الحريريون يتخبطون والميقاتيون يتحصنون
التالي
الفلسطينيون يرفضون المساومة حول جثامين شهدائهم