وقفة الحداد: الحياد الممنوع!

 
كان التنظيم جيداً. في حديقة الجلاء المواجهة للمدخل الرئيسي لفندق الفصول الأربعة، تتوّزع حواجز معدنية على محيط الحديقة، يقف خلفها شبان يلتحفون العلم السوري "الرسمي". على المدخل، قائمة بشروط المشاركة، الأبرز بينها ذلك الذي يحدّد العلم الذي يُسمح برفعه: العلم السوري المعروف بألوانه الثلاثة مع نجمتيه.. فقط!

تفتيش المشاركين جارٍ، والوضع هادئ، والمنظمون يتحركون في كل مكان، من دون ضجيج. عناصر الشرطة يتمركزون بالقرب من الباب، وبعضهم يتذمّر. لكنّ لا مفرّ من "الضجيج" في عاصمة الأمويين. شبّان يرتدون "تي شيرتات" بيضاء طبعت عليها صور للرئيس السوري، يحملون "دربكة" وأعلام سوريّة" مخالفة للدستور"، يحاولون الدخول، يتم منعهم.

الضجيج يستمر. مسيرة سيّارة تهتف لـ"أبي حافظ"، والضجيج يتصاعد. مسيرة راجلة على الضفة الأخرى لمجرى نهر بردى، تهتف أيضاً لـ"أبي حافظ". لم تنتقل عدوى "الضجيج" إلى داخل الحديقة. هدوء يتناسب والحدث، وقفة حداد صامتة، تنتهي بدقيقة صمت على أرواح الشهداء وبالنشيد الوطني السوري، ثمّ ينفضّ المجتمعون، تاركين المنظمين يواجهون "الضجيج" وحدهم: استفزازات، محاولات للضرب، "تتكلل" باستفراد أصحاب الأعلام المخالفة دستورياً بأحد الشباب من المنظمين: يُضرب، يُهان، تستدعى سيّارة لاستجوابه، ثمّ يطلق سراحه.

ينشر الشاب ما جرى معه على صفحته على "الفايسبوك". من قرأ ما كتبه وكان قد اعتقد، سابقاً، أنّ "الدّم السوري" قد يكون، كما يُفترض به أن يكون، سبيلاً لتوحيد السوريين، بعيداً عن ثنائية موالاة / معارضة، سيتراجع عن اعتقاده!

كليّة الاقتصاد: فائض العنف!

يوم الخميس الماضي، الحرّ الدمشقي في ذروته والازدحام كذلك. ينهي الطلاب في هذا اليوم امتحاناتهم الجامعيّة. أناس كثيرون يتجولون في الشارع العريض المقابل لكلية الاقتصاد، الترّقب سيد الموقف، ورفع العلم السوري هو الإشارة لبدء التظاهرة. لم يُرفع العلم، بل ارتفعت أصوات تهتف: حريّة، حريّة، حريّة.. من كان بعيداً عن مصدر الصوت هرع نحوه للانضمام. لكن الذين هرعوا كانوا كثر؛ بعضهم لينضم للتظاهرة، وبعضهم ليفرّغ في المتظاهرين حقداً وكراهية. وحده "ابن درعا" لم ينتظر الوصول إلى مكان التجمّع ليهتف؛ يركض هاتفاً للحريّة. وحده "ابن درعا" الآخر من كان قادراً على السخرية من رجل الأمن الواقف خلفه تماماً!

ست مرّات فقط، استطاع صوت المتظاهرين الشباب، المدنيين، السلميين، الجامعيين، أن يهتف للحريّة، قبل أن تصل القبضات إلى وجوههم ووجوههن. تفرّق التجمع، ركضوا في جميع الاتجاهات، لكن أصحاب القبضات استطاعوا أن يمسكوا بثلاثة من المتظاهرين، أشبعوهم، في عين المكان، ضرباً وإذلالاً وتحقيراً، قبل أن ينقلوا أحدهم إلى سيارة خاصّة، ليتلقى فيها المزيد من الضرب. يمتلأ المكان فجأة برجال ترجّلوا من حافلتي نقل كبيرتين، ليعلو في الفضاء الدمشقي الحار الهتاف لـ: أبي حافظ!

الحوار: حوار؟!

ليس للطيف الشبابي المعارض على تنوّعه وتبايناته الكثير ليقوله في شأن الحوار مع النظام. ولا يمكن تجاوز تلك النظرة الساخرة أو الضحكة الخبيثة التي ترتسم على وجه كل من تسأله عن الأمر؛ كجزء أساسي من أجوبتهم. لا يتعارض موقفهم مع خوفهم على البلد ومستقبله، لكنّه لا يبرّر، بالنسبة لهم، ضرورة الحوار مع نظام يقتل ويعتقل. إذ "لا حوار مع الدبابة"، كما يقول أحدهم، مستوحياً الشعار الذي كان قد ُرفع في أكثر من مدينة وقرية سوريّة.

بعضهم يعتبر أن الحوار مع النظام، ضمن الظروف الحاليّة، هو مكافأة له على ممارساته، ويستعير من "رؤية لجان التنسيق المحليّة لمستقبل سوريا السياسي" ليضيف: "لا يجوز أن يُكافأ المجنون على جنونه". يرى بعضهم أن نظاماً لديه رغبة جديّة في الحوار، لا يقيل محافظاً حاول أن يحمي أبناء محافظته من القتل، ولا يستمر في اعتقال شبان وشابات لم يعرف عنهم سوى حبّهم لوطنهم وغيرتهم عليه ورغبتهم في أن يعيشوا على أرضه بحريّة.

أحدهم بدا هادئ الأعصاب، يعتبر أن لا مفرّ من الحوار، لكنّه يتوجه إلى النظام مطالباً إيّاه بالموافقة على الشروط التي وضعتها أي من الجهات المعارضة لبدء الحوار، قوى إعلان دمشق، أو معارضو "اللقاء التشاوري"، أو هيئة التنسيق الوطني، أو تلك التي دعت إليها لجان التنسيق المحليّة من خلال "رؤيتها"، في سبيل التمهيد لمؤتمر وطني، وهي:

– وقف القتل والعنف واستهداف التظاهرات من قبل أجهزة الأمن والميليشيات والشبيحة المرتبطين بهم.

– الإفراج الفوري عن المعتقلين السياسيين جميعا، القدامى والجدد، ووقف الاعتقال والملاحقة بحق ناشطي الثورة والمعارضة.

– وقف التجييش الإعلامي ضد المتظاهرين، والسماح لوسائل الإعلام العربية والدولية بدخول البلاد للاطلاع على الحقيقة على الأرض.

– الثورة ستستمر، ولن يتوقف التظاهر السلمي ومن دون ترخيص مسبق، لأنه سلاح الشعب للدفاع عن حقوقه

السابق
مسبح الزهراني..غارق
التالي
الإيكولاي وصلت على مصر !!؟