عادل صباح يترك النبطية وحيداً

 حزينة هي النبطية، بلا نكهتها اليسارية "المعتقة" عادل صباح؛ ويتيمة كذلك في غياب فارسها الذي أثرى الساح بأصيل النضال.
وعزيزة هي النبطية، أن خرج من أزقتها المتواضعة ذاك الوجه المشع الوسيم (حتى انطفاء شعلته)، الذي لم تأخذه الدنيا نحو متاع النشوة والغرور؛ وإنما ليصوب وجهة الاختيار وينحو مسلك الثوار؛ في زمن كانت أبواب سجون السلطة مشرعة أمام أي منتفض أو صادح بالحق والحرية والكرامة.
لم تكن الأجيال التي سارت إلى جانب عادل صباح، كتفاً إلى كتف، ولا تلك التي أتت بعدها بقرن واثنين وثلاثة وأربعة وغيرها، بحاجة إلى الاستدلال على منحى عادل صباح في المقاومة والكفاح؛ فهو السهل الممتنع؛ يعاجلك التنادم والتسامح، بيد أنه عصي على المهادنة حول حق أو مطلب أو قضية.
ولأنه كذلك، لم يُقرأ في الوجوه التي سارت خلف نعشه، في الوداع الأخير، غير التاريخ النضالي المديد لعادل صباح "بيّ العامل والفلاح"؛ هذا الشعار الذي طالما رددته حناجر الفلاحين والمزارعين والعمال يوم انتدبوه مرشحهم "الثوري" إلى السدة البرلمانية عن قضاء النبطية.
يوم وداع البطل، اعتلى اليساري العتيق والمخضرم، الشيوعي حتى الرمق الأخير، عادل صباح تظاهرته "الختامية"، كأنه يهتف بالسائرين خلف نعشه، يجوب الطرقات عينها في المدينة التي ذاب بها عشقاً ونضالاً وتضحية، وهو ابن أحد بيوتاتها النقيّة وسيّد أنديتها وجمعياتها. قاد تظاهرته الأخيرة. فيسلّم الجمع: إنه الموت، يشيع عادل صباح نحو عالم آخر سيكون، حتماً، ثائره وسيّد نضاله، وإن كانت ساحنا في حلّ من فطام اسمه عادل صباح.

لقاء أخير وعمرُ حافل
في لقاء معه أواخر العام 2001؛ والذاكرة تحتشد عنده بالتفاصيل الدقيقة لمجريات العمر النضالي؛ يتلو عادل صباح الأحداث والأسماء كأنها حصلت البارحة؛ إنها الذاكرة الوقادة للقائد المختمر قضيته؛ وظل كذلك حتى الرمق الأخير يذكر الوجوه والعيون والهمسات؛ وتلك السنديانة الحمراء التي ظللته بعظمتها في وقت لم يكن يبحث عن فيء يقيه تلك الشمس التي صبغت جباه المقاومين والمزارعين والفلاحين؛ لأنه منهم ولهم.
لا تخونك الكلمات المثلى للتعريف بعادل صباح، ولا تكفي النعوت للتدليل إليه، فمنذ أن اختار دربه النضالي على مختلف المستويات حدد هويته وعنوانه. هذا الجبل الثوري منذ حداثته لم ينحن يوماً لغير الفقراء والمظلومين أنّى كانوا أو هتفوا لحق وكرامة ومطلب. ومثلهم هتف ضد المحتل الفرنسي ومزق علمه، فاعتقل (1943). وهتف لحق زملائه المعلمين في العدالة والإنصاف، فسجن مع رفاق دربه وأبعد عن مدينته ثم فصل لاحقاً، تعسفياً. ولميوله اليسارية الشيوعية فلوحق وحُبس. ولمطالب الفلاحين ومزارعي التبغ رفاق الشهيدين حسن حايك ونعيم درويش فحورب ومنع من الترشح للانتخابات البلدية في الستينيات ومن الوصول إلى النيابية. ثم في هدوئه وعاصفته انتصر للقضية الفلسطينية "حتى العبادة" فتظاهر ضد تهريب المنتوجات الزراعية لليهود، وإطلاق النار على الفلسطينيين في لبنان وخاض معاركه السياسية الانتخابية والعامة والحزبية الداخلية.

نموذجاً تربوياً ناطقاً
إلى جانب اختياره البعد النضالي المنفلت من قيود الاستعباد والانقياد الأعمى، انصهر في العمل الاجتماعي حتى شكل أنموذجاً يعرفه كل من يعرف المدينة. أما تربوياً، فقد عرفه الجيل العتيق مربياَ فاضلاً وصالحاً ومطالباً أول لحقوق زملائه المعلمين ومنتصراً دائماً لقضيتهم، فدفع الثمن.
عين عادل صباح وكيل معلم في آذار العام 1946 ليبدأ التعليم قبل انتهاء العام الدراسي في مدرسة النبطية الرسمية، أمّ المدارس حالياً. انتدب في العام 1950 لتمثيل معلمي الجنوب في اللقاء مع الرئيس الصلح مطالب المعلمين وقضيتهم، فتحقق بعضها. وبعدها بأقل من عامين أضرب المعلمون للمطالب عينها.
تشكلت في العام 1953 هيئة وطنية من خمسة أعضاء، وكان عادل صباح واحداً منهم ممثلاً محافظة الجنوب، وشارك في اجتماع الشاطئ الفضي في طرابلس حيث تقرر الإضراب العام في جميع مدارس لبنان، وبعد تنفيذه بيوم، استدعي معلمو النبطية إلى السراي القديم في المدينة، ونودي على عادل صباح للدخول إلى غرفة المدعي العام الذي استمع منه إلى كل المعلومات حول الإضراب وأسبابه، وقال: "لما لم تتحقق هذه المطالب بالوسائل الإيجابية من اتصالات ومراجعات ومطالبات اضطررنا إلى اللجوء إلى هذا الأسلوب السلبي في التحرك" سأل المدعي العام الحضور "هل أنتم موافقون على كلامه" فرد الجميع بالإيجاب وخرجوا بتظاهرة من التصفيق والتأييد إلى سوق النبطية. وفي اليوم التالي أتت سيارة جيب عسكرية واعتقلته من المدرسة مع زملائه أحمد فخر الدين ومصطفى حاج علي وحسين صباح وحبيب جابر ونقلوا مقيدين إلى "الإشلة" قرب قلعة صيدا وسجنوا مع 17موقوفاً، في أحكام مختلفة، وأفرج عنهم بعد ستة أيام على أثر إعلانهم الإضراب عن الطعام.

…إلى الانتخابات
ترشح عادل صباح في العام ذاته إلى الانتخابات النيابية عن قضاء النبطية بعد لقاء مع فرج الله الحلو في بيروت. وأُطلق شعار: "رشحنا عادل صبّاح، خيّ العامل والفلاح" وكانت ضجة حول هذا الترشيح كونه الأول لواحد من عامة الناس وشيوعي منظم.
لم يثمر التأييد الشعبي نجاحاً، فاستمر في التعليم، غير أنه نقل تأديبياً إلى قرية "خربة قنفار" في البقاع، وظل هناك حتى العام 1956. وفي العام الدراسي التالي انتقل إلى بلدة مشغرة وشارك في تشكيل خلية حزبية، فما كان من جريدة "صدى لبنان" إلا أن كتبت في صفحتها الأولى "انتقل عادل صباح الشيوعي المعروف إلى بلدة مشغرة وبدأ نشاطه الحزبي فيها".
في العام 1957 طلب من عادل صباح نصّ عريضة ضد مشروع أيزنهاور فلبّى، وانتقل بعدها للتعليم في بلدة أرنون. هناك أتاه خبر من المحقق العسكري للمثول أمامه في صيدا، فمثل أمام القاضي أديب علاّم، وجبه "بالعريضة". لكن، وبعد تحقيق فتحته وزارة التربية جاء قرار كف يده عن التعليم وإحالته إلى المجلس التأديبي ثم جاء نص القرار "يصرف عادل صباح من التعليم" وكان رده: "شكرا لكم، إنشاء الله تكون ضمائركم مرتاحة".

من المقاومة إلى السجن
في العام 1958 انصرف عادل صباح للنضال السياسي وتسلم قيادة المقاومة الشعبية في النبطية، برئاسته ومعه حبيب صادق ومهدي صادق والدكتور إبراهيم المعلم ومحي الدين محي الدين وحسين سرحان. ليتحول بعدها إلى قائد للمظاهرات. في العام 1964 منع من الترشح إلى الانتخابات البلدية، ثم في العام 1968 ترشح إلى الانتخابات النيابية مجدداً ولم يحالفه الحظ، وبعدها بعام ترك مسؤوليته التنظيمية في الحزب الشيوعي وانصرف إلى نضاله الفعلي مع القضية الفلسطينية ليعتقل مع نحو ثلاثين من النبطية ومنطقتها على أثر مشاركتهم في تظاهرة 23 نيسان. وفي العام 1974ترشح إلى الانتخابات النيابية الفرعية عن قضاء النبطية.
بعد مشاركته الفعالة وقيادته ثورة مزراعي التبغ في الجنوب والاحتجاجات التي عمت النبطية والجنوب في العام 1973 وانتهت بالتظاهرة التاريخية في النبطية والتي سقط فيها نعيم درويش وحسن حايك، ومع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، قاد التظاهرات مجدداً "ضد الانعزالية" ومشروعها التفتيتي والكونفدرالي؛ ثم مجيء العدوان الإسرائيلي الذي صار يصب نار حقده على المدينة التي يعرفها بيتاً بيتاً ويعرف ناسها وجهاً وجهاً، انتقل عادل صباح إلى منحى بلسمة الجراح وليكون من المؤسسين لجمعية النجدة الشعبية اللبنانية.
 عادل صبّاح
ظل رئيساً بالتزكية لنادي الشقيف من العام 1969 حتى العام 1982 بعد مشاركته الفعالة في تأسيسه وجمع التبرعات لتشييد صرحه. ثم تولى رئاسة فرع النجدة الشعبية اللبنانية في النبطية بين العامين 1992 و2002. في العام 1998 ترشح إلى بلدية النبطية ونجح، وبعدها بثلاث سنوات انتخب نائباً لرئيسها ثم عضواً في مجلسها البلدي منذ انتخابات 2004. فضلاً عن عضويته في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي منذ تأسيسه وحتى وفاته مساء 8 حزيران 2008.
لم ينبطح عادل صباح إلا حينما تدرب على السلاح إبان ثورة 1958. وبسبب مآل السياسة والسياسيين في لبنان والعالم العربي وظل يردد قبل وفاته: "لا يبدو في المدى المنظور موقع لحركات سياسية وطنية، أما على المدى البعيد، فالانتصار لقضايا الشعوب".

السابق
مايكل دبغي لم يحقّق حلم.. العودة
التالي
“الأم المثالية” زهرة الحر 1917-2004 على يديها ولد الأطفال والقصائد