الضاحية الجنوبية: توجس من الاستهداف وتشديد على درء الفتنة

الحمار الذي أفرج عنه ح. خ. أمس، بعد «سجنه» في الباحة الصغيرة المحاذية لمحطة الوقود التي يملكها الرجل، كان يعاند إتمام تثبيت العلم الإسرائيلي حول عنقه.. غير أن الفتى الذي أوكلت إليه المهمة، بإيعاز من صاحب المحطة الشهير في الضاحية، بدا متحمساً لـترويض الحمار، تسهيلاً لمهمته، فربت على ظهره بهدوء، بعدما عرف أن صورته ستنشر في وسيلة إعلامية.
لم يعرف الفتى سبباً لتوقيت الإفراج عن الحمار، وهو حمار ذاع صيته في الضاحية، في مناسبات عدة، إذ كان يزرع المنطقة جيئة وذهاباً، مذيلاً بلافتات – يتبرّع زبائن المحطة بتكلفتها – تحاكي مناسبات سياسية متفاوتة: ترقب صدور القرار الظني، هزيمة إسرائيل في حرب تموز، وغيرهما.
وفيما كانت لافتات صاحب المحطة، الذي لا يقبل النقاش حول أن إسرائيل تقف وراء اتهام «حزب الله» باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، تعبّر عن رد فعل واضح حول تسليم القرار الظني للقضاء اللبناني، فإن حركة الشارع في الضاحية بدت غامضة أمس، وسط شيوع أخبار تفيد بأن القرار يدين أفراداً من «حزب الله»، ومن بينهم ابن منطقة الغبيري مصطفى بدر الدين.
وقد اكتسب الشارع غموضه، على مستوى حركتي المارة والسيارات، بسبب الزحمة وتهافت أبناء مناطق الضاحية على المحال التجارية للتبضع، علماً أن معظمهم لم يستحق بعد راتبه الشهري.
وفيما بدا، للوهلة الأولى، أن حركتي السير والمارة المزدحمة هما دليلان على أن الشارع تلقف الخبر على نحو عادي، فإن المشهد برمته يمكن أن يُرى من عين ثانية: ثمة من ترك وظيفته وعاد إلى المنزل، فسبّب زحمة سير في غير موعدها (قبل الواحدة ظهراً)، وثمة من توجس من تداعيات القرار، فقرر التبضع قبل وقوع أي إشكال يحيل دون توفر المواد الغذائية.
وأظهرت آراء بعض قاطني مثلث حارة حريك – بئر العبد – جادة هادي نصر الله، أن التوجس المتوقع انتشاره بين الضاحية وبين بيروت، لم يقطف ثماره: كثيرون كانوا يسألون عن سبب التخوّف من قرار كانوا يستفيقون وينامون على مضمونه، مشبّهين يوم أمس بخبر موت مريض كانوا يعرفون أن حالته الصحية متدهورة.
غير أن آخرين، ممن «احترفوا» السياسة من خلف مناضد وظائفهم، كالعمّ شفيق صاحب أحد المحال التجارية، فقد بدوا أكثر تعمقاً في الأسئلة المتوجسة: «الخوف هو من لحظة التنفيذ، أي عندما تقرر المحكمة الدولية اعتقال المتهمين عنوةً. هنا يحق لنا، كأبناء الضاحية، أن نتوجس، بانتظار إعلان موقف «حزب الله» الرسمي من الموضوع، خصوصاً إذا أصبحت الضاحية مستهدفة، في حال تمنّع الحزب عن تسليم المتهمين».
وإذا كان العمّ الستيني يحاذر التعبير عن توجهه السياسي علناً، مكتفياً بتحليل سياسي مقتضب، فإن نظرات جاره كانت تؤنبه، كإشارة إلى أن صاحبها يريد التعليق: «يا شفيق، الآن أصبحت دبلوماسياً؟ لماذا «تفترض»؟ نحن سنقف مع المقاومة في وجه القرار، مهما كانت التبعات والنتائج، إلا الانزلاق إلى فتنة داخلية.. فهذا خط أحمر بالنسبة لجمهور المقاومة». نال الجار تصفيق العمّ، باستهزاء دمث.
ربما يكون خبر «مشاركة» بدر الدين في اغتيال الحريري مفاجئاً على مستوى البلد، إلا أنه بدا مضحكاً بالنسبة إلى أبناء منطقة الغبيري، ليس لمعرفتهم به، وإنما لقناعة كُرّست في عقولهم، تفيد بالتالي: «لا مصلحة لحزب الله بأن يغتال الحريري، إذ كيف يقتل شخصاً كان يسانده؟ ثم إن القرار كان موجهاً ضد سوريا في بادئ الأمر، ثم وجهت أصابعه إلى الحزب، كلعبة سياسية أصبحت واضحة».
لازمة تتكرر على لسان كل «محلّل»، في معرض الإفصاح عن رأيه، كمواطن، حول تداعيات القرار الظني. ولا مناص أنها أضحت متجذرّة في العقول، ولا تقبل أي نقاش، بل تتشبث بمعادلة بسيطة: أن تقع فتنة داخلية، تعيد اقتتالنا بين بعضنا البعض، أمر لن تحققه الدول الداعمة للمحكمة الدولية.
وهناك، خلف عربة متصدعة تظللها شجرة وحيدة عند تقاطع حارة حريك، جلس رجل ستيني ينتظر توافد زبائن الطقس الحارّ، ليزودهم بكوب عصير مثلّج.
لم يبد الرجل، كما قال بصوته الذي بالكاد يسمعه هو، أي اهتمام للقرار الظني. «وأخيراً أبصر النور»، أردف هازئاً، قبل سؤاله: «هل يحتاج الموضوع لأكثر من شخص واحد، كي يدرك بأن القرار لا يفيد إلا إسرائيل؟ أنا لست خائفاً، لكنني عرفت أن شقيقة جارتي عادت إلى صور، ما إن عرفت بالخبر، رغم أنها كانت تنوي قضاء أسبوع هنا».
في المقابل، كثيرون عبّروا عن سخطهم من السياسة اللبنانية بشكل عام، معتبرين أنهم تنفسوا الصعداء عقب ولادة الحكومة الجديدة، وما إن ارتاحوا لعودة الهدوء الأمني إلى البلاد، وتفرّغ العباد لمصالحهم وكسب أرزاقهم، حتى وقعت على رؤوسهم «مصيبة ستشغل عقولنا وتضرّ بمصالحنا، أكثر من مشكلة ولادة الحكومة».
واستشهد ع. ع.، وهو صاحب شركة لتأجير السيارات، بالاتصالات الهاتفية التي وردته عقب شيوع الخبر، والتي ألغى أصحابها حجوزات السيارات ما إن عرفوا بصدور القرار الظني.
الشاب الذي كان معوّلاً على موسم قد يعوّضه بعض خسائره السابقة، كان على وشك ضرب أحد موظفي شركته، في أثناء سؤال الموظف عن موعد استحقاق الراتب. فقد تنهد قليلاً، وأجابه بصوت هادئ: «هل تأخذ سيارتي مقابل راتبك؟ أم أعطيك المنزل؟ يا حبيبي، ألم تسمع أخبار الزفت اليوم؟».

السابق
بين عدالة آتية وفتنة مؤجَّلة…
التالي
فلتخرجوا الشباب من الزاوية الميتة!