إنّها طرابلس (لبنان)!

هذه المدينة التي يتقاتل على توصيف ما يحدث فيها التياران المتصارعان في لبنان. يتناولان اشتباكاً أخيراً أوقع ضحايا، وما أكثر أمثاله! لسبب مختلف في كل مرة، ويتبادلان التهم حول المتسبب به ووظائف افتعاله. بينما «المدينة الثانية» في لبنان، على ما درجت تسميتها، منكوبة بكل معاني الكلمة ومدياتها، تذوي منذ سنوات بل عقود، وسط إهمال مديد وعنيد يضاف الى الاختناق الموضوعي الذي يتسبب به فقدانها دورها التقليدي، إهمال يبدأ من لدى نخبها هي نفسها، وهذا لا يرحم في بلد الإقطاع السياسي.

روى لي توفيق سلطان، ابن طرابلس كما أنا، أنه كان يافعاً حين اصطحبه والده، رئيس بلدية المدينة حينذاك، لمقابلة أول رئيس جمهورية للبنان الاستقلالي، بشارة الخوري، وهو رجل دولة محترم، طالباً منه توسيع مرفأ طرابلس ليتمكن من استقبال سفن تجارية وليس مراكب صيد أو نقل خفيفة، وكيف أجابه الرئيس بعصبية أن ذلك قد يحدث حين يتم إنجاز الحوض العاشر لمرفأ بيروت!

عاشت طرابلس طوال عهدها بلبنان على هذه المعادلة: هي رسمياً المدينة الثانية ولكنها على بعد عشر درجات من العاصمة المتألقة، الفائقة المركزية، التي كان يقطن فيها قبل الحرب الأهلية، عام 1975، نصف سكان البلاد. أما الإشارة إلى «عهدها بلبنان» فمرده إلى أن طرابلس قاومت في الثلاثينات الخضوع لإعلان لبنان الكبير الذي تولته فرنسا الانتدابية. طرابلس حلمت بدولة عربية كبرى تحل محل السلطنة العثمانية المنهارة، وقاطع الكثير من أهلها تلك «البدعة» التي تجسدت أمامهم حين بوشر بإحصاء السكان عام 1932. طرابلس كانت تتبنى إلحاق اسمها بتحديد «الشام» تمييزاً ولا شك عن طرابلس الغرب، ولكن كإضافة مناسبة لها إذ تقول عمقها التجاري والنفسي: مدينة تختص بالتعامل مع الداخل العربي. نصف عائلات طرابلس من أصول شامية، ونصفهم الآخر لديه مصاهرات في تلك الشام الواسعة.

وأما باب التبانة، أو المدخل الشمالي للمدينة حيث تدور اليوم الاشتباكات المتكررة، والذي تحول خربة بائسة، فكان بازارها، سوق جملتها المفتوح على حماه وحمص الواقعتين على مرمى حجر، وعلى الموانئ المشابهة في طرطوس واللاذقية. المكان الذي كانت تتوافر فيه أفضل أصناف السمن الحموي الذي يأتي تجار لبنان كافة لحجز حصصهم منه، وكذلك الحبوب على أنواعها والقمح الذي ما زالت سوقه تحتفظ باسمه. وسوق الخضار والحمضيات المصدَّرة بالمراكب الى الخارج (ومنها تسمية الليمون الحامض بـ «المَراكبي»).

كان أهل طرابلس يسمون باب التبانة «باب الذهب» لغناه. وكانت روائح زهر الليمون والنارنغ تفوح في أرجاء المدينة، المسماة أيضاً لهذا السبب بـ «الفيحاء»، فتدوّخ الرؤوس من قوة عطرها. طرابلس تبعد ثلاثين كيلومتراً عن الحدود السورية وثمانين عن بيروت. وتفصلها عن العاصمة منطقة جبل لبنان، أو جُل ما كان يعرف بـ «لبنان الصغير» أيام العثمانيين، الذي كان يتمتع بإدارة ذاتية لأسباب تتعلق بالتاريخ وبهويته المسيحية وبتزايد نفوذ القناصل الأوروبيين الذين أسسوا فيه إرساليات تبشيرية وتعليمية وقد سهّلوا له قيام علاقات تجارية وصناعية، منذ القرن السابع عشر، ونالوا بعد ذلك حق حماية أو رعاية الطوائف المسيحية.

وهكذا، علاوة على المسافة الجغرافية، تبدو بيروت بعيدة بالنسبة لطرابلس التي اعتادت أن تكون مركزاً لنشاط ذاتي فعلي. وقد انتهى هذا النشاط بفعل تغير مفهوم المسافات، وتعزيز مركزية بيروت الإدارية والاقتصادية علاوة على السياسية، وبفعل الاصطدام بـ «استحالة» سورية.

لقد تغيرت هذه الأخيرة كثيراً، و لا يكاد يوجد أثر للتجار والصناعيين السوريين الذين اعتاد الطرابلسيون التعامل معهم، بعدما ذوت حمص وحماه على هذا الصعيد، واستُبدلت تجاراتها بنشاطات اقتصادية أخرى. هذا إذا حصل.

وتعزز هذا التغيير مع اكتشاف طرابلس وجهاً آخر لسورية حين دخلت اليها قوات الردع العربية، التي سرعان ما اقتصرت على القوات السورية، فقصفت المدينة، ويتهمها طرابلسيون بارتكاب مجازر، كما حدث عام 1987. ولأن استخدام التوتر الطائفي أيسر الحلول، وأكثرها جاهزيةً، ولأن لكل قوة سياسية «طائفتها»، فقد جرت مصادرة النطق باسم السكان العلويين، الذين تقطن غالبيتهم على تلة مشرفة على باب التبانة، وتعمل غالبيتهم في أسواقها، وجرى «تحويلهم» الى فريق مسلح مقرب من النظام السوري، يقتفي أثر ما يريد سياسياً وتنفذه.

وكما بالنسبة لهؤلاء، تعمل الجهات المقابلة، التي تتفاخر بالنطق باسم «السنَّة»، وبالإشارة الى طرابلس ومنطقة الشمال كـ «خزان للسنَّة» بالمعنى العددي، على الاستثمار في التوتر الطائفي الميليشياوي الذي يُبقي العنف السائد عند حد منخفض ولكنْ حاضر بما يكفي ليكون قابلاً للتأويل كما يحدث هذه الأيام، وهو على أية حال عنف مضبوط، قابل للانتفاخ.

فإلى أين تدير طرابلس وجهها، وهي مختنقة على جهتيها؟ وماذا يمكنها أن تفعل، لا سيما في ظلّ الأسباب البنيوية التي تتعلق بنخبها الضائعة في تعريف نفسها وفي الاستناد الى ركائز اجتماعية واضحة المعالم. فطرابلس لم تخبر من «زعمائها»، سابقاً وحالياً، سوى التأرجح بين اعتبار زعامتهم معطى ثابتاً أبدياً، وحقاً لهم ليس من واجبات تقابله، أو لجوء بعض جديدهم الى ترتيبات متسرعة لشراء ولاء الناس المفقرين والذين سُدت أمامهم الآفاق. هل يكفي لتجسيد ذلك الإشارة الى ان معرض طرابلس الدولي الذي كان يُفترض به منذ الستينات أن ينعش المدينة، معطل عملياً منذ نشأته، إلا من نشاطات موسمية بائسة وشديدة المحلية، والمرفأ يزداد تواضعاً إذا ما قيست الأمور بمنطق النسبية…

هل يعلم الناس أن طرابلس القديمة هي المدينة المملوكية الوحيدة التي ما زالت قابلة للمشاهدة… إذا وجد من يكترث؟ هل يعلمون شيئاً عن سائر معالم المدينة السياحية؟ هل يعلمون أنه لا يوجد فندق واحد فيها، وأن الفندق الوحيد الذي أنشئ تحول عملياً الى مقر لتيار المستقبل.

ثم كيف يدار هذا الانفصام بين طرابلس التي تقدم كخزان للسنَّة، وبين استكثار أن يكون رئيس الوزراء منها، وأن يتجرأ على الحلول محل السيد سعد الحريري الذي ظن، في تصريحات علنية، أن المنصب هو تعويضه الأبدي عن اغتيال أبيه. ويُستكثـــر عليها وجود وزراء منها في الحكومة الجديدة. صحيـــح أن ذلك لا يحل مشكلة المدينة لانعدام روح المبادرة لديهم حيالها، وافتقارهم لتصور عن كيفية معالجة بؤسها المدقع (تقـول تقارير وكالة التنمية إنها الأفقر في لبنان)، لكن رد الفعل هذا يؤشر إلى مقدار الاستخفاف بطرابلس من قبل من يستقوون بها. ليست هذه مرثية لطرابلس ولا هي نوستالجيا استعادية، بل محاولة لعرض موات مدينة.

السابق
جنبلاط: كلام عون تحد للسنة
التالي
عن الخوف الذي لا يورث