من يفرّط بإرث الحريري؟

«الرئاسة حُلوة الرضاع مُرّة العظام»
ابن عربي

في غمرة التحريض السياسي والمذهبي على الحكومة والذي فجّر اشتباكات في طرابلس يوم الجمعة الماضي، انطلق صوت هادئ حاملاً رسالة شهيد كبير لا نزال نبحث، ومعنا العالم، عمن اغتاله في أبشع صور الاغتيال السياسي وأشدها مأساوية.
فقد أطلّت علينا السيدة نازك رفيق الحريري، في عيد الأب، برسالة باسم أفراد العائلة التسعة جميعاً، وجّهتها إلى الشعب اللبناني، مذكرة أبناء رفيق الحريري بمن فيهم سعد، بأن أباهم «القائد ألّف مجتمعاً موحّداً بالمحبة والعلم، وبقيم المساواة والعدالة الاجتماعية، وبروابط إنسانية تنبذ العنف والقهر، وترفض منطق الغلبة والقوة، وتقوم على التحاور والتسامح والمشاركة».

ودعت «القادة والعقلاء» إلى المحافظة على لبنان الذي أحبه رفيق الحريري، وتحمّل «مسؤولياتهم كاملة تجاهه»، وان يرفعوا عنه المخاطر المتربصة به «ولا نطفئ بأيدينا شعلة الحرية والسيادة والعدالة التي أوقدها الرئيس الشهيد…». وقالت: «فليتواضع بعضنا أمام الآخر، وليتنازل كل فرد منا في سبيل المجموعة».

لسنا ندري ماذا كان رد فعل ورثة رفيق الحريري على هذا النداء النابع من قلب مجروح وخائف من ان تضيع القيم التي عمل من أجلها الشهيد في زواريب الخلافات السياسية، والتجاذبات الطائفية، والولاءات المذهبية، بفعل المكابرة، والانصياع للخارج، فضلاً عن الرغبة في الاستئثار، ورفض الشراكة، الأمر الذي أضاع على ورثة رفيق الحريري فرصة المشاركة في حكومة إنقاذ وطني عرض عليهم الرئيس نجيب ميقاتي دخولها لمواجهة «المخاطر المتربصة» بالوطن. بل هم أمعنوا في التنكر لهذا الإرث بفتح نار استباقية على الحكومة قبل وضعها البيان الوزاري ونيلها الثقة، إضافة إلى تأليب المجتمع الدولي ضدها باعتبارها في نظر الحريريين «حكومة سوريا و«حزب الله»»، مما ينذر بأذى كبير للبنان ككل وليس للأطراف الذين تتألف منهم الحكومة.

وكم يبتعد سعد الحريري عن وصية والده بالتحاور والتسامح والمشاركة، عندما يبادر إلى إظهار عدائيته للحكومة مهدداً ومتوعداً بإسقاطها، وإن بالعنف. وقد هدّد تياره باللجوء إلى كل الطرق المتاحة للتصدي لها بما فيها النزول إلى الشارع، فكان له ما تمنى في طرابلس أواخر الأسبوع الماضي حيث لعلع الرصاص وسقط 6 ضحايا بينهم شهيدان للجيش.

وكانت أحداث طرابلس محط تساؤلات حول مبررات إقحام الجيش في النزاعات المحلية، خصوصاً في مواجهة التظاهرات، في حين أن هناك قوى أمن داخلي مدربة ومجهزة لمثل هذه المهمات.

وبعيداً عن محاولة الفريق الحريري محاصرة الحكومة واتهامها بأنها تريد الانتقام من أنصاره في السلطة وممارسة سياسة كيدية حيالهم، واضطرار رئيس الحكومة إلى الدفاع عن نفسه في هذا المجال مؤكداً ان لا كيدية ولا انتقام ولا أخذ بالثأر، فإن ثمة من لفته إلى خطورة ما طرحه مفتي الشمال وطرابلس الشيخ مالك الشعار إثر مشاركته في الاجتماع الذي عقد الاثنين الماضي في بيروت في مكتب الرئيس فؤاد السنيورة رئيس كتلة «المستقبل» النيابية وبرئاسته، إذ دعا الشعار إلى لقاء موسّع يضم الرئيس نجيب ميقاتي والوزيرين محمد الصفدي وأحمد كرامي من أجل إنشاء «مجلس قيادة لطرابلس»، مهمته «استيعاب كل ما يحدث في المدينة وإيجاد حلحلة مباشرة له».

ولئن تكن نية المفتي طيبة في هذا الشأن، وترمي إلى التقريب في وجهات النظر بين الحريريين والميقاتيين في المدينة بغية تأمين نوع من الأمن السياسي، فإن طرح فكرة «مجلس القيادة» يذكّرنا بمجالس قيادة الثورات وبالإدارات المدنية التي تفرح فكرتها التقسيميين الذي يلحّون على وجوب اعتماد الكونفيديرالية الطائفية والحكم المحلي الموسّع، تحت شعار اللامركزية الإدارية، بحيث يكون هناك أمن ذاتي، وإدارة سياسية ـ مناطقية مرتبطة بالإدارة المركزية.

وأظهرت المشاهد الطرابلسية المسلحة نوعاً من الأمن الذاتي لإمارة شمالية لا ينقصها سوى «مجلس قيادة» لتصبح مستقلة. فهل هذا ما ينشده الحريريون؟

فإذا كان الجواب سلباً، فلماذا لا يدعو المفتي الشعار الفريقين إلى مصالحة شاملة تشارك فيها الجماعات المسلحة التي تتعهّد عدم استعمال السلاح في الشارع، والاحتكام إلى القانون، على ان يوكل النظام في المدينة إلى قوى الأمن الداخلي، سواء أكان قائدها ريفي أم سواه.

ان فكفكة الدولة التي ساهم رفيق الحريري في إعادة بنائها يُحزن اللبنانيين. ويرى هؤلاء ان الصراخ الذي يزعق به صقور الزرق بأن في الحكومة الجديدة من يريد اجتثاث إرث الحريري، لا معنى له. بل هو نوع من الإرهاب الفكري والتعمية على تفريط الحريريين أنفسهم بإرث شهيدهم!

فأين سعد الحريري من المحبة والمساواة والعدالة الاجتماعية، ورفض منطق الغلبة والقوة التي تحدثت عنها السيدة الحريري؟ بل أين هو من التحاور والتسامح والمشاركة؟
وماذا حلّ بالديموقراطية، والوحدة الوطنية التي ضحى رفيق الحريري بحياته من أجلها؟

لم تخطئ السيدة الحريري عندما توجهت إلى العقلاء لتحمّل «مسؤولياتنا كاملة تجاه وطننا الحبيب».

فهل لا يزال هناك عقلاء في أوساط الحريريين، ليمدوا أيديهم إلى الفريق الآخر، بدل العمل على استفزاز الشركاء في الوطن من طريق إقامة إمارات طائفية ومذهبية في مدينة طالما كانت مثالاً للعيش المشترك؟

السابق
الحياة: 14 آذار سنواجه صفاً واحداً وسلمياً حكومة انقلاب النظام السوري – حزب الله
التالي
دراما النكتة في لبنان