كارل سلامة يدخل عالم الأفلام بغمضة عين

"كان الفلاح هناك، وكانت له حديقة صغيرة. وفي يده كان المنكوش. وبه كان يحفر يوميا ليزرع شتلة. وكل صباح تتفتح زهرة بلون جديد. العصافير كانت تزور الحديقة لرؤية وروده. وكان الفلاحون يغتاظون لتميّزه عنهم، فزهورهم متشابهة، وتربتهم ومياههم نفسها. لا بدّ أن يكون سرّه في المنكوش. وفي أحد الصباحات لم يجد الفلاّح منكوشه. عاد إلى منزله حزينا وأغلق جميع الأبواب والنوافذ.. وبعد أيام عدّة بدأت الزهور تذبل والألوان تزول..".

هذه القصة التي تبدو للوهلة الأولى مجرد قصّة أطفال يرويها أب لابنه، هي النقطة الفاصلة التي تحدد مصير البطل في الفيلم. رجل بـ"غمضة عين" ينتقل ليعيش قصته من جديد، ويقوم بمعالجة نفسية لذاته، ليتمكّن من استعادة ثقته بنفسه.
كارل سلامة الذي تخرج عام 2010 من جامعة القديس يوسف، يقول عن فيلمه "غمضة عين" إن الفكرة أتته متأخرة، فحين أنجز مواده الجامعية لم يكن لديه موضوع فيلم للتخرج، مما أدى إلى تأجيله لعامين. "فكرة الفيلم بسيطة، وهي معالجة نفسيّة لي، قبل أن تكون لغيري". وسلامة يرفض أن تكون الأفلام مجرّد رسائل ومواعظ للناس، بل يجده طريقة لمساعدة المخرج قبل مشاهديه على التخلص من بعض العقبات. بفيلمه أراد إثبات أنّ الإنسان، ومن دون مساعدة أحد، يمكنه تخطّي جميع المشاكل التي يصادفها وتؤثر فيه. "لما يرجع لورا ويفلفش وراقو وذاكرتو، ويشوف الإشيا من غير منظار، بيقدر يلاقي حلّ لكل شي".

عدم وجود التمويل لم يكن عائقا أمام كارل لتنفيذ فيلمه الذي كلف 8 آلاف دولار تقريبا. استفاد من مساعدة الجامعة التي قدّمت له المعدات اللازمة من كاميرات، إضاءة، أجهزة للمونتاج والصوت، و"الاستديو".
لم يكتف الفيلم بنيله أعلى علامة في الفصل، بل تمكّن من المشاركة بمهرجانات عدّة، من أيام بيروت السينمائيّة، إلى مهرجان جامعة سيدة اللويزة للأفلام، و"Cinema European" في لبنان، و"نادي لكل الناس". كما أنه بتميّزه استطاع تخطّي الحدود الجغرافيّة للبنان، فحلّق بعيدا ليعرض بأهم المهرجانات في الخارج، من اليونان إلى مهرجان كان للأفلام القصيرة.. وقريبا إلى لندن.

لم يخف بعض المخرجين الأجانب استغرابهم من أن يكون صانع هذا الفيلم لبنانيا. كارل سلامة، أحد القلائل الذين استطاعوا تغيير ولو جزءا بسيط الصورة المهترئة للبنان. وعن المشاركة في المهرجانات، يقول كارل إنها تؤمن ربحا معنويا، فهناك دائما مشاهدين جدد سيتاح لهم فرصة التعرف إليك.

كارل سلامه المولود في 12 تشرين الثاني عام 1987، ترعرع في عائلة فنيّة، فوالده كميل سلامه ممثّل وكاتب ومخرج مسرحي لبناني. كَبر شغفه بالفنّ باكراً. وفي العاشرة من عمره، شارك كممثل رئيسي في المسلسل اللبناني "نيّال البيت". عام 2005، دخل معهد الفنون في الجامعة اليسوعيّة وبدأ بدعم موهبته بالدراسة. وفي العام 2010، وبعد العمل على أفلام قصيرة عدّة، أخرج فيلمه الأول "غمضة عين".

بالإضافة إلى عمله كمخرج فقرات في قناة "أخبار المستقبل"، تحتّل حياته ثلاثة أمور رئيسيّة: "الإخراج، التمثيل، المونتاج". ويرى في الأخير، الوسيلة الوحيدة لتأمين حاجاته للقدرة على العيش، "على أمل انو يكون في فرصة أعمل أكتر من فيلم، وبلكي بالآخر بقدر أعمل فيلم طويل".

"غمضة عين" كان تجربة لجمع المسرح بالسينما، وذلك يبدو واضحا من خلال السينوغرافيا التي استخدمها، فهي تكاد لا تمتّ بصلة إلى الواقعيّة. لم يقتصر عمل كارل في هذا الفيلم على الإخراج، فكان هو الكاتب، وواضع البصمة الأخيرة، عبر المونتاج.
أما عن النص فقد كان متكاملا، وذا أبعاد عديدة، ويجمع بين قصتين. فهو يبدأ بالفلاح الذي فقد منكوشه، واعتكف عن الزراعة. ثم ينتقل إلى ماهر، عازف البيانو، الذي أصيب بشلل في يده جراء حادث، فأغلق أبوابه وتوقف عن العزف وغرق في ذاته. كلاهما فقدا أداته، وكانت لهما ردات الفعل نفسها، والخاتمة ذاتها.

تميز كارل بدا واضحا أكثر في مشهد الأيادي، فهو باستعمال تكنيك "دمى القفازات" والموسيقى المرافقة، التي كان لها حضور مميز، استطاع تجسيد الحالة النفسيّة لماهر وما يخالجه من هواجس وآلام من دون أي حاجة للكلام..
يجد سلامة أنّ المسلسلات اللبنانيّة ما تزال ناقصة. والسبب هو التمسّك بالأساليب القديمة، فطريقة التمثيل والإخراج، وحتى النصوص تكاد تخلو من الواقعيّة. أمّا في السينما فالوضع مختلف. هناك قصص جديدة، وهناك بوادر خير لإنتاج عدد أكبر من الأفلام للسنة المقبلة. "في شغل حلو أكتر من التلفزيون". ويرى أنّ الأمور التقنيّة والفنيّة باتت موجودة بشكل كامل. إلاّ أنّ ما يعيق السينما هو مشكلة الإنتاج، فالاتكال على التمويل الخارجي يؤثّر على الخيارات الفنيّة: "القصّة والمضمون"، كفرض بعض الآراء والقصص.

"ذات يوم، سمع الفلاح قرعا على باب المنزل يشبه صوت الشتاء، ولدهشته كانت العصافير تضرب بمناقيرها على خشب الباب وتلوّح بأجنحتها ليتبعها.. وعندما لحق بها وجد أن العصافير قد حفّرت بمناقيرها مئة حفرة صغيرة. منقار صغير استطاع القيام بما كان يفعله المنكوش.. ركع الفلاح على أرض الحديقة. وبدأ يحفر كالسابق، وعادت الزهور إلى ألوانها..".

تنتهي قصة الفلاح، ويجلس ماهر على البيانو ويبدأ محاولاته للعزف متجاهلا مصاب يدّه.

السابق
هكذا يختار طلاب الإعلام مشاريع تخرجهم..
التالي
السياسة: على قادة لبنان مساندة الشعب السوري لأن سقوط الأسد سيؤدي إلى محاسبتهم