المثقف النزيه ضد المثقف النذل

هذا النص نشر في الكتاب الذي اصدرته الجامعة الانطونية تكريما للدكتور احمد بيضون في عنوان: عَلَم المعاني والمباني، تحت اشراف الدكتورة باسكال لحود وشارك فيه بدراسات وشهادات عدد من الباحثين والكتاب.
لا شهادة شخصية تستطيع أن تكون غير انتقائية أي أن تكون "عادلة". لكني وأنا مطالب بشهادة عن أحمد بيضون، شهادة مكتوبة، أجد نفسي فيما أبحث عن حل لمعضلة كيف أتكلم عن هذا المنتج (الغزير) المجتهد (الكبير)- وكلا المنتج والمجتهد بكسر التاء والهاء- أجد نفسي عائدا إلى استخدام كيف أتكلم عنه شفهيا.
لسنوات طويلة أكرر "فكرتين" – مديحين عن أحمد بيضون حين يأتي ذكره- بغيابه- في سهرة مع أصدقاء أو جلسة مكتبية مع أصدقاء و"أعداء".
فكرتان عن أحمد بيضون تشكلان عمق قناعتي بقيمة هذا المثقف.
الأولى شخصية جدا، ولكنها كما عند عديدين أكاديمية جدا، وسياسية جدا. هي أن أحمد بيضون شخص نزيه، تستطيع أن تأتمنه بكل معاني الكلمة : تأتمنه على ما يكتب، وعلى ما يفكر وعلى علاقاته بالناس أحبهم أم لم يحبهم، امتدحهم أم انتقدهم.
نزيه أولا وعاشرا بمعنى أنه يؤمن بما يقول ويكتب ويحاول ألا يخدع أحدا.
فكيف "تأتمن" كاتبا؟ الجواب ببساطة: عندما تكون جازما بأنه لا يمكن أن يكتب ما ليس مقتنعا به اتفقتَ أو اختلفتَ معه.
هذا لا يعني أن النزاهة هي الشرط الضروري لوجود مثقفين لامعين. هناك أنذال بين كتاب لامعين مع الأسف. لكنهم لامعون.
أحمد بيضون هو من فئة أخرى حيث الذكاء والنزاهة متلازمان. يؤدي هذا التصنيف – للتكرار- الى الثقة بأنه يؤمن بما يقول ويكتب. بينما "النذل" حتى لو نجح، هو الذي لا تستطيع أن تأتمنه على فكرة أو موقف أو سلوك.
الثانية هي أنه مفكر عربي لا لبناني فقط. أقصد أن نتاجه كعالم اجتماع وككاتب سياسي أو في العلوم السياسية وكناقد تأريخي (الهمزة على الألف أي كناقد للمؤرخين) ومؤخرا كمؤرخ (كتابه عن رياض الصلح والذي قرأت مخطوطته قبل صدوره) جعل له لبنانيا وفي الأوساط الأكاديمية العربية والغربية وخصوصا الفرنسية سمعة المفكر المتميز في الشؤون اللبنانية. بهذا المعنى وعلى الصحة الأكيدة لهذه السمعة فهي سمعة ظالمة، لأنها تهمل قيمته كمفكر في القضايا العربية… تظهر هذه القيمة جلية في كتابه "كلمن" الذي لا يعكس فقط معرفته اللغوية العميقة بالعربية (ناهيك باتقانه الفرنسية المكتسبة… ومعرفته الجادة بالإنكليزية) بل أيضا بما يسمى"الثقافة العربية" وتحديدا المصرية.
باختصار كنت أردد دائما هاتين الفكرتين عنه: النزاهة الشخصية وكونه مفكرا عربيا إلى حد المفاجأة الدائمة.
أقول ذلك عن صديقي أحمد بيضون، صديقي الأستاذ أحمد الذي سننتبه انه- ربما دون ان يدري!- كتب الكتاب الوحيد حتى الآن لتاريخ لبنان الموحد عبر عمله المهم "الهوية الطائفية والزمن الاجتماعي في أعمال مؤرخي لبنان المعاصرين"… في بلد لازال الكثيرون فيه يبحثون- وأحيانا ببغائيا- عن "كتاب موحد للتاريخ". لست ولم أعد شخصيا من هذا الرأي الداعي إلى "رواية واحدة" للتاريخ إلا إذا كان "الكتاب الموحد" هو كتاب نقد التأريخ الجاري، كما فعل أحمد بيضون قبل أكثر من ربع قرن.
تحياتي أخي أحمد صديقا برتبة أستاذ واستاذا برتبة صديق. بعد هذا، لا أهمية شخصية لأي اختلاف معك. وهي طبعا اختلافات عديدة.

السابق
لحود: ازمة النظام لا تكمن في شل الدولة
التالي
تركيا وإيران وريفي: تغييرات أوليّة