العلمانية من روح الإسلام والمسيحية

قال رجل: لا أؤمن بأي ديانة. ردت عليه إحدى الجالسات: أنت علماني؟
قلت: هو لا يؤمن بالديانات وليس علمانيا.
قالت: أليس العلماني الذي يكفر بكل الأديان؟

من لعب بالكلمات؟ من أوقف كلمة (ملحد) عن التداول وأقر قاموسا جديداً يلائم أجواء الفترة السياسية وروح اللعبة الدينية الرخيصة؟ منذ زمن يتم التلاعب بالكلمات بشراكة سياسية دينية. سئمت هذا الوطن العربي المتأخر بكل شيء. لِمَ أتمسك بفكرة (الوطن العربي) وأصر على الانتماء لفكرة يبدو أنها انتهت؟
أبسط المطالبات الإصلاحية، تتهم بالعلمانية. كما كان اتهام الشيوعية زمان. زمن الغباء السياسي العربي الذي أفرز قصر تخطيطه ومراهقته السلطوية وخيانته الوطنية فكر القاعدة والإرهاب، فدخل العرب والمسلمون عهد تهميش وإقصاء من كل مجتمعات العالم. دمرت الشعوب العربية للمحافظة على العروش السياسية باسم محاربة الشيوعية اللادينية.
كل ذلك ليبقى أصحاب الكراسي على مقاعدهم الوثيرة. الوطن العربي صار ساحة لتفريخ الإرهاب. المهم مقاعدهم الوثيرة. اليوم تعاد نفس الحبكة. الفرق أننا لسنا شيوعيي الأمس. لسنا مستسلمين. لا نتبع أي أيديولوجيا. ونؤمن ونمتلك اليقين بأن العلمانية مطلب وطني. ومن منظور ديني تكون العلمانية حاجة إسلامية.

العلمانية ستكون سبباً في تكاتف الأمة وتلاحم مواطنيها.
العلمانية السبيل الوحيد للقضاء على الصراع والاقتتال الطائفي الذي فاجأنا به هذا الوطن العربي الكبير. سنة وشيعة. مسيحية وإسلام. وتضادات لم تنتشر يوماً على السطح.
في ظل العلمانية، لن يفكر أحد بالهجرة لأنه أقلية… وسيتساوى أفراد المجتمع ويشعرون بالاستقرار والانتماء. العلمانية أساس لمساواة المواطنين ولإقرار قوانين تحمي الجميع ولا ترجح كفة على أخرى لسبب العرق أو الطائفة أو الجنس.
العلمانية ليست إيديولوجيا أو معتقدا وليست مذهباً ولا عقيدة إلحادية. بل إن فصل الدين عن الدولة يقي الدين كل الانحرافات التي أصابته على مر العصور السياسية وشوهته وجعلته مبتزاً مخلخلاً منبوذاً غير قادر على لم شمل الأفراد تحت لواء السلام والاطمئنان.

العلمانية تحترم كل الأديان. وسترجع للإسلام هيبته التي جرحت حين تم تداوله في بلاط الأمراء والملوك والوزراء والرؤساء والتيارات المتشددة كإحدى وسائل التحكم والديكتاتورية وكعصا السلطة التي لا يعصاها أحد. العلمانية ستحرك العربي الراكد وستدفعه للأمام. لديكم مشكلة مع المصطلح؟

غيروه. أطلقوا عليه ما يعجبكم من تسميات. ليس أبرع من العرب في طرح التسميات. امنحوه المسمى الذي يعجبكم. أم أخترع لكم مصطلحا من التاريخ الإسلامي كي يأتي موافقاً لتطلعات البعض المزيفة؟
الذين سيخرجون اليوم إلى تظاهرات الجمعة الثانية بمصر ليسوا بكفار ولا مشركين، ونحن لا نعيش في مكة قبل ألف وأربعمئة عام لنتوهم أن المعركة عربية داخلية بين المسلمين ومشركي قريش. الجماعات السلفية تتهم مظاهرات اليوم بأنها خروج عن الحاكم. هذا نهجهم. إقران الحاكم بالله لتستحيل معصيته، لذا يرفضون العلمانية وأهلها.

والذين يطالبون بإصلاحات وتغييرات في كل بلد عربي ليسوا بكفار أو عبدة أصنام ولا يفكرون بإزاحة لبنات هذا الصرح الممشوق. هؤلاء رأوا فسادا وأرادوا تغييره. أطلقت عليهم سهام التكفير. صاروا خوارج. نبذهم المجتمع. قالوا له إنهم علمانيون. تنبه الجميع. حتى المظلوم تنبه فرفضهم، ورفض دفاعهم عنه. مجتمع لا يفكر. يأكل وينام ويصرخ بمجون اسقطوا الطاغية. ولا يعلم سبب رغبته بإسقاط الطاغية.

يقول الكاتب جورج طرابيشي في أحد حواراته «ما وجدته في تاريخ الإسلام يعادل، بل يزيد بكثير على هذه الجملة الإنجيلية المميزة (مالله لله وما لقيصر لقيصر) ففي حديث الرسول، تأبير النخل، كان الرسول مارا بأحد أحياء المدينة، فسمع أزيزا فاستغربه، فقال: «ما هذا؟» فقالوا: «النخل يؤبرونه» أي يلقحونه، فقال – وهو الذي لم تكن له خبرة في الزراعة: «لو لم يفعلوا لصلح»، فأمسكوا عن التلقيح، فجاء النخل شيصا، أي لم يثمر، فلما ارتدوا إليه يسألونه قال قولته المشهورة: «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، وقد روى هذا الحديث – من جملة رواته – عائشة، وأنس بن مالك بصيغ أخرى. هناك حوالي خمس عشرة رواية تؤكد المنحى التمييزي بين الدنيا والآخرة، بين شؤون الدنيا التي يعلمها الناس، وشؤون الآخرة التي هي علم إلهي عند الله، وما أتى به الرسول فهو تركيز على الجانب الأخروي. وإذا كانت الجملة الإنجيلية «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله» هي سبب العلمانية، فأنا عندي أنها في حديث تأبير النخل، وفي حديث القضاء أيضا معنى آخر لهذا الفصل، حيث يقول «إني أقضي بينكم بما أسمع، فإن قضيت لمسلم من حق أخيه بالباطل، فإني أكون قطعت له قطعة من جهنم»، فالرسول يعترف بالجانب البشري من شخصيته، وفيه شيء يؤديه عن الله أي الجانب الرسالي وهذا تمييز كبير أيضا يؤكد التمييز بين المستويين الأخروي والدنيوي «ويكمل طرابيشي أيضاً» كان تركيزي على اكتشاف كلمة العلمانية التي لم تأتنا من الغرب كما نتهم، ويتهمونها أنها كلمة عميلة للغرب، فالعلمانية جزء أساسي من تراثنا، ومن قلب التراث، وهنا أحيل إلى «ابن المقفع المصري» بالقرن الرابع الهجري الذي استعمل هذه الكلمة دون أن يشرحها في كتابه «مصباح العقل» مما يعني أنه لم يكتبها ويحدث بها، فهي معروفة لدى الناس، فالعلماني هو بالنسبة لابن المقفع المصري القبطي «من ليس راهبا» أي من ليس رجل دين، وكلمة علماني ليست من «العلم» فلا نقول عِلمانية بكسر العين، ولكن عَلماني بفتح العين أي من «العالم» فرجل الدين ينتسب إلى الآخرة، في حين أن العلماني ينتسب إلى هذه الدنيا، إذاً الكلمة ليست جديدة في تراثنا، ولم تستورد في القرن التاسع عشر أو العشرين كما يقال، بل هي موجودة في هذا التراث العربي المسيحي، والذي هو جزء من التراث العربي الإسلامي، وهو في حاضرته، وليس منفصلا عنه، وهذا ما أطلقت عليه «بذرة العلمانية في الإسلام» أي أنه لم توجد العلمانية، ولكن وجدت بذورها في تاريخنا، وكما طورت أوروبا العلمانية الإنجيلية، فنحن نستطيع أن نطور بذرة العلمانية في الإسلام « هذا رأي طرابيشي». مجرد إيضاح بأن العلمانية ليست إلحاداً وعبثا بفكرة الخلق والوجود. بل فصلاً واجباً من روح الإسلام والمسيحية معاً.

السابق
نتانياهو وحربه الحدودية
التالي
الانباء: عون يهاجم “طق الحنك” ويحذّر من “فك رقاب”