آن أوان الإصلاح في “حزب الله”

هل فشل إنقلاب "القمصان السود" وكيف يُحتسب في الأصل نجاحه أو فشله؟

إذا كانَ المعيارُ هو استعصاء تشكيل الحكومة فلا شكّ عندها أنّ الإنقلابيين في وضع حرج. إلا أنّ وقائع الإنقلاب ما زالت جميعها بين أيديهم، من إحتكار العنف إلى الإرهاب الكلاميّ إلى الأكثرية البرلمانيّة القسريّة. وما زال الإنقلابيّون قادرين على جعل اللبنانيين يدفعون ثمن مأزق إنقلابهم، فهذا الأخير وإن لم ينجح في تشكيل حكومة مواجهة المحكمة الدولية إنّما هو يفلح الآن في تفكيك مؤسّسات الدولة مستهدفاً موقعي رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء في طريقه، ومستهدفاً جوهر النظام البرلمانيّ من خلال بدعة جعل رئيس مجلس النوّاب "قائماً بالدستور"، أي مفسّراً له، وبدعة عقد جلسة للمجلس من دون حكومة تنبثق عنه ويراقبها ويتشارك معها في لعبة فصل السلطات وتكاملها.

أمّا إذا كان المعيارُ هو مدى إسهام الإنقلاب في تمكين المشروع الهيمنيّ الفئويّ المسلّح أو تعجيزه فيمكن القول عندها أنّ الإنقلاب أعاد الكشف عن الإستحالة العملية لإتمام هكذا مشروع، وإستحالة أن يعرف لبنان استقراراً في ظلّ هكذا مشروع، بل كشف الإنقلاب ومساره عن دور هذا المشروع الهيمنيّ الفئويّ المسلّح في لبنان في التعريض باستقرار الإقليم، وبالدرجة الأولى استقرار "منظومة الممانعة"، إلى الدرجة التي أضحى فيها "حمولة زائدة" على النظام السوريّ.

فالمشروع الهيمنيّ الفئويّ المسلّح انطلق بشكل محموم في أعقاب حرب تمّوز، مدفوعاً بالواقع الجديد جنوب الليطانيّ الذي استوجب إدارة البندقية بإتجاه الداخل، ومتغذياً من الانشطار الخطير في "الذاكرات الجماعية" اللبنانية المختلفة نتيجة لهذه الحرب وما تلاها مباشرة، وساهمت "النجادية" في جعل هذا المشروع يغادر كل "تقية" طبعت أسلوب تعاطي "حزب الله" في الكثير من الموضوعات الداخلية على مدى سنوات.

بالنتيجة دخل هذا المشروع منطق فشله التاريخيّ مع إنتخابات حزيران 2009، وعلى الرغم من أنّ الأكثرية التي حصدتها "قوى 14 آذار" اتضح سريعاً أنّها "مقيّدة" ثمّ "غير قابلة للاستعمال" ثم "منقضية"، إلا أنّ إنقلاب "القمصان السود" عاد وأكّد بالنتيجة استحالة هيمنة حزب فئويّ مسلّح على البلد، واستحالة منح سيطرته العنفية حدّاً أدنى من الاستقرار الذي يفيد الجماعة الأهلية المستند إليها.

والأزمة ليست محصورة في الإنقلابيين فقط، إنّما هي أيضاً أزمة المنقلب عليهم أيضاً، ذلك أنّ مرجعية إنتخابات 2009 قد بُدّدت ولا ترُمّم.
هذا يعني أنّ الأزمة شاملة، ولا سبيل إلى حلّها بالوسائل التقليديّة. وطالما أنّ الإنقلاب كان بالدرجة الأولى طعن بـ"إتفاق الدوحة" فإنّ أي تسوية داخلية جديدة يفترض بها بالدرجة الأولى الإجابة العملية عن سؤال الضمانات التي ظهر أنّها بقيت مفقودة في ثنايا "إتفاق الدوحة".

وحلّ ذلك لا يقتصر فقط على توسيع أفق الرعاية الإقليمية أو الدولية المقبلة للحلّ في لبنان، إنّما أيضاً فتح ثغرات "مراجعة" لبنانية شاملة لا سبيل إليها إلا بـ"مراجعة إصلاحية" في كلّ من التشكيلات اللبنانية الأساسية دون استثناء، وفي طليعتها "حزب الله" صاحب "الإنقلاب الحاليّ المعلّق في الفضاء".

فهذا الحزب لا يمكنه أن يستمرّ إلى ما لا نهاية في المكابرة على استحالة مشروعه الهيمنيّ الفئويّ على لبنان، وفي ربطه مسار الطائفة الشيعية بمجموعة عناصر غير مستقرّة منها احتمال تجدّد حرب إقليمية تدميرية فتّاكة، واحتمال تسعير التصادم المذهبيّ، واحتمال تجاوز حالة الانقسام المسيحيّ حول "حزب الله" إلى إجماع مسيحيّ جديد بإزائه.

المراجعة ضرورة بالنسبة إلى "حزب الله" سواء عنينا بها إصلاحاً في الخطاب، أم في الممارسة، أم في الهيكلية، أم في شكل الارتباط بالخارج. قد يبدو الحديث عن "إصلاح" في "حزب الله" من رابع المستحيلات بالنسبة لكثيرين، وقد يحتجون سلباً أو إيجاباً بالطاعة المطلقة التي تضبط حياة الحزب، غير أنّ واقعة كون "حزب الله" أكبر تشكيل جماهيريّ في تاريخ لبنان لا تجعله بمنأى عن محدّدات علم الإجتماع السياسيّ، كما أنّ أزمة مشروعه الهيمنيّ الفئويّ المسلّح لا يمكن أن تحلّ بالمعاندة وحدها.

والحزب أصيب بصدمات ثلاث مؤخراً أمام الربيع العرب: صدم في أنّ ثورة مصر لم تكن على صورته ومثاله (وإمتداداً لم تكن ثورة تونس فاطمية جديدة، ولم تكن ثورة اليمن حوثية موسّعة، أمّا ثورة ليبيا فأستعانت بالأطلسي). وصدم في أنّ حدوداً مذهبية فصلت بين معظم العرب وبين انتفاضة البحرين وأنّه كـ"حزب الله" ساهم في عزلة الإنتفاضة الأخيرة. وصدم بعد كل ذلك في تحوّله إلى "حمولة زائدة" تضيّق احتمالات "الحلّ الإصلاحيّ" في سوريا وتتبرّع في إدانة "الإغاثة الإنسانية".

أما أزمة نظام الملالي في إيران، فجاءت لتكشف الحقيقة المرّة التالية: وهو أنّه ليس هناك من لاهوت سياسيّ محدّد للحكم في إيران على ما كان يعتقد الحزب، وهذا يعني فصاماً عقيدياً يعيشه الحزب حالياً بين موالاته "الظاهرية" لعقيدة ولاية الفقيه المطلقة الشرائط، وبين موالاته "الباطنية" لعقيدة التعجيل القسريّ لعلامات الظهور.

كل هذا يشي بأنّ الإصلاح ما عاد مستحيلاً في أمّة "حزب الله"، بل أنّه ضرورة لإنتزاع حيوية جديدة، هي بحكم الشرط الأساسيّ لإنقاذ تركة الحزب، ولإنقاذ التعايش بين اللبنانيين، ولإنقاذ لبنان.

السابق
المستقبل :”ذكرى التحرير” .. والتشكيلة الحكومية لا تجد من يحرّرها
التالي
العيد .. والحرب الثالثة!