الأكثرية القسرية تترنّح.. لكنها لن تسقط بشكل تلقائي

قبل انتخابات 2005، لم يكن مفهوم "الأكثريّة" قد شغل الحيّز الذي له من يومها في الحياة البرلمانية والسياسية اللبنانية. كان يستقيم الحديث بالأحرى عن "رجحان" ظرفيّ لهذه الوجهة أو تلك. فقط مع الاستقطاب الحاصل بين "8 و14" آذار، أمكن لمفهوم "الأكثرية النيابية" أن يصير محوريّاً، وهذا يؤشّر بلا شك إلى بعد تحديثيّ جلبته هذه الثنائية معها إلى الحياة السياسية اللبنانية، في مقابل أبعاد أخرى تدفع بالأمور في الاتجاه المعاكس.
فمن جهة، كان الاستقطاب بين "8 و14" آذار تحديثياً للحياة السياسية من ناحية أنّه خلق تحالفين يستند كل منهما إلى معادلات طائفية ومذهبية مركّبة ومتعدّدة بحيث يجوز في وجه من الوجوه وصف كل من هذين التحالفين بإنه إسلامي ـ مسيحيّ بوجه التحالف الإسلاميّ ـ المسيحيّ الآخر.

أمّا من جهة أخرى، فكان للاستقطاب بين "8 و 14 آذار" بُعد غير تحديثيّ، كون محور الصراع فيه كان الموقف من مشروع الهيمنة الفئويّة المسلّحة الذي يمثّله بشكل أساسيّ "حزب الله"، وهو أمر يختزن في ذاته بعداً تفجيريّاً لكل ما هو كيانيّ وميثاقيّ.

أيّاً يكن من شيء، كان اعتماد مفهوم "الأكثرية النيابية" بدءاً من عام 2005 علامة على اتجاه تحديثيّ للحياة السياسية اللبنانية. إلا أنّ ذلك لم يتعزّز إلا في انتخابات 2009، فلم يسبق قبل هذه الانتخابات أن تواجه ائتلافان انتخابيان عريضان من أقصى شمال البلد إلى أقصى جنوبه، ومن دون العروج على "تحالف رباعيّ" كما في العام 2005.

هنا طبعاً ينبغي استدراك أمرين. الأوّل، أنّه لم يجر خوض الانتخابات بالشكل اللازم في المناطق التي يسيطر عليها السلاح بشكل مباشر في الجنوب والبقاع الشمالي. والثانيّ، أنّ قوى 14 آذار خاضت المعركة على أساس برنامج انتخابي واضح وأنّ "الودائع" التي انتظمت على لوائحها كانت انضوت تحت لواء هذا البرنامج الانتخابي، أيضاً بشكل واضح. في المقابل، لم يكن ثمة برنامج انتخابيّ موحّد لائتلاف 8 آذار، وإنّما فقط وعد مفخّخ بأنّ "المجلس الجديد سيختار حكومة ورئيساً للجمهورية".

رغم ذلك، كانت أكثرية حزيران 2009 حدثاً استثنائياً في التاريخ اللبنانيّ. لأوّل مرة، كان هناك أكثرية بالمعيار البرلمانيّ للكلمة، أي أكثرية تنبثق من انتخابات تُخاض بين ائتلافين عريضين يكاد يكون في كل الدوائر، وتُخاض على أساس برنامج انتخابيّ مكتوب. بالتالي، رغم كل النقد البديهي وغير البديهي الذي يمكن صبّه على قوى 14 آذار، يكفي هذه القوى أنّها حقّقت هذا الحدث الاستثنائيّ التحديثيّ للحياة السياسيّة اللبنانيّة.

في المقابل، ولدت بشكل مخالف تماماً تلك الأكثرية المنتزعة قسراً على أساس النقض الأحاديّ لـ"صلح الدوحة"، ومن خلال تعبئة ميليشيوية لعبت زيارة "فوهرر الممانعة" محمود أحمدي نجاد دوراً أساسيّاً في تأجيجها. فبخلاف التذاكي الرائج في هذا المجال، ليست الديموقراطية البرلمانية لعبة من ألعاب المَيسر لكي يُقال إنّ تبدّل الأحجام في المجلس يمكن أن يأتي على الأكثرية البرنامجية التي خرجت بها صناديق الاقتراع بأكثرية لابرنامجية مولّدة اصطناعيّاً.

صحيح أنّ الأكثرية المنتخبة البرنامجية لم تستطع أن تحافظ على نفسها طويلا،ً وهي أصلاً ارتكبت الخطأ التاريخيّ الجسيم، خطأ عدم إقامة الاحتفالات لثلاثة أيّام متتالية يوم الانتصار الانتخابيّ، إلا أنّ ذلك لا يعني أنّ حسابات الأكثرية والأقلية داخل النظام البرلمانيّ هي بهذه البساطة التي تغادر فيها مجموعة من الساسة موقعاً باتجاه موقع آخر، فتتبدّل الأكثرية مع حركتهم، ذهاباً وإياباً. في ذلك طعن بالشرطين الديموقراطيّ والبرنامجيّ لمفهوم الأكثرية في النظام البرلمانيّ.

وقد جاء الواقع الإقليميّ سانحاً لتظهير غربة "الأكثرية القسرية" عن أسس الأكثرية في أي نظام برلمانيّ. والمشكلة هنا لا تتعلّق بطول المدّة التي تأخذها عملية التشكيل الحكوميّ، ولا بمفارقة أنّ التشكيل يتعسّر مع أنّ حكومة اللون الواحد ستجيء مقارنة بواقع البلاد المنقسم بين لونين كبيرين، أي 8 و14. المشكلة الأكبر هي أنّ هذه الأكثرية تثبت يوماً بعد يوم مناقضتها للنظام البرلمانيّ، وهي سواء جمدت في مكان واحد جراء عسر التشكيل الحكوميّ أو تحرّكت باتجاه فرض هيمنة اللون الواحد، فإنّ ما تقوم به في الحالتين، هو تفكيك ما تبقى من نظامنا البرلمانيّ. يعني هذا بالتالي، أنّه لئن استطاعت هذه الأكثرية القسرية أن تُسقط الأكثرية السابقة الديموقراطية والبرنامجية وتفكّكها، فإنّ إسقاط الأكثرية القسريّة الحالية لن يكون بالمراهنة على إعادة تموقع البعض داخلها من جديد، ولا بالمراهنة على ظروف إقليمية قد تعيد للأكثرية الحقّة ما لها، ولا بالغوص في انتخابات 2013 منذ الآن كما يتوّهم كثيرون. يعني ذلك أيضاً، أنّ الأزمة ليست فقط في "8 آذار" إنّما هي أزمة شاملة: فمن جهة هناك من انتزع أكثرية برلمانية بالقوّة ولا يعرف كيف يستخدمها، ومن جهة ثانية هناك من يرى الأزمة عند الطرف المستقوي على الآخرين بسلاحه لكنه لا يعرف كيف يستفيد مما يراه أمامه.

مثل هذا الوضع، ولو طال، سيبقى وضعاً موقتاً. أمّا الاتجاه الحقيقيّ للأمور ولو تأخر ظهوره على السطح، فيبدأ من طرح المشكلة الحقيقية: كيف يمكن ضمان أي شيء في لبنان بعد نقض فريق بطريقة أحادية "صلح الدوحة"؟ هذا هو السؤال. الباقي تفاصيل، بعضها مسلٍّ، والكثير منها مملّ.

السابق
جنبلاط لـ 8 و14 وآذار: كلاكما على خطأ…
التالي
الاخبار: حزب الله يُسلّم ميقاتي 3 أسماء للداخليّة