نجاة حشيشو: خجل منتظر في عيون الخاطفين

نجاة حشيشو، أي أم هي؟ أي زوجة؟ كيف لها أن تتحمل هذا العذاب والقهر والحزن والقلق؟
من أين أتت بكل هذا الصبر والثبات والصمود والعزيمة والإرادة؟ لا مكان للشعر هنا، ولا لعبارات الثناء والمواساة. تختصر نجاة حشيشو، أمام قوس محكمة جنايات صيدا، رحلة معاناة آلاف أسر ضحايا الإخفاء القسري وعلامات استفهامهم التي لم تجد أجوبة بعد

تقف نجاة حشيشو غداً أمام قوس العدالة في محكمة جنايات صيدا، حاملة قضية زوجها المخطوف محيي الدين حشيشو. ستنظر نجاة في عيون الخاطفين. الثأر لم يدخل يوماً قاموسها المثقل بالقيم الإنسانية. المصارحة طريقها إلى المصالحة. الاعتراف بالمسؤولية طريق المتهمين إلى كشف الحقيقة. الإنصاف طريق القضاء إلى مشروع العدالة. وإلى أن يتحقق كل ذلك، تجلس نجاة في حديقة منزلها في منطقة الهلالية شرقي صيدا تراقب طريقاً تختصر ذاكرة المعاناة التي تدخل بعد أربعة أشهر عامها الواحد والثلاثين.

من هناك اقتيد زوجها، في ١٥ أيلول ١٩٨٢، في وضح النهار، على أيدي عشرين مسلحاً من تنظيم القوات اللبنانية، سلكوا تلك الطريق بثلاث سيارات فيات برتقالية وبيجو بيضاء وسيارة عسكرية.
لا تمل نجاة من إعادة رواية الخطف، لا بل تصرّ على أن تسلك الطريق التي سلكها الخاطفون منذ لحظة دخولهم المفترق المؤدي من الجامعة اليسوعية، ووصولهم إلى منزل ف. د. الشاهد الذي لا يزال حياً بعد وفاة العديد من الشهود، وكيف عادوا أدراجهم ودخلوا مفترق منزل حشيشو وهدّدوه بالقتل واقتادوه بقوة السلاح، وقبل أن يغادروا قالوا لزوجته: «نص ساعة وبيرجع»، ثم انسحبوا بأسلحتهم وهم يصرخون «فوتوا لَجُوّا» على الجيران الذين تسمّروا على شرفات منازلهم.
الرواية سردتها نجاة أمام المحققين في المخافر، وأعادتها مراراً وتكراراً أمام القضاة والمحققين الذين تعاقبوا على الدعوى التي رُفعت في ٢٣ آذار ١٩٩١، وأمام اللجان والهيئات الرسمية التي ألّفتها الحكومات المتعاقبة منذ اتفاق الطائف، ووثّقتها في ملفات لجنة أهالي المخطوفين، ورفعتها إلى لجنة مكافحة الإخفاء القسري في الأمم المتحدة.
توثّق الدعوى أن الجهة التي نفذت الخطف هي القوات اللبنانية، ويتضمن قرار القاضي ردّ الدفوع الشكلية بتاريخ 12/6/2003 المقدم من محامي ثلاثة متهمين، بعد أن قادت روايات الشهود وعناصر التحقيق إلى الادّعاء عليهم. ولقد جاء صراحة في نص القرار العبارة الآتية: «يتبين من الاطلاع على أوراق الدعوى أن الجرم المسوق بحق المتهمين الثلاثة… يتعلق بحادث الخطف الذي تعرض له السيد حشيشو على أيدي عناصر من القوات اللبنانية في منطقة شرقي صيدا». وهذا أيضاً ما نقرأه في مضبطة الاتهام لجهة «أن بعض المسلحين من القوات اللبنانية قد أقدموا على خطف حشيشو».
ويُستدل من إفادة أحد المتهمين أمام قاضي التحقيق سعيه إلى تبرئة القوات اللبنانية من الخطف، وذلك من خلال الادّعاء أن «قوى عدة كانت نافذة آنذاك في المنطقة»، ما يشير إلى نيّته إخفاء معلومات.
القناع الذي طالما لبسته القوات اللبنانية لتغطية مسؤوليتها عن هذه الجريمة المتمادية، أزيل منتصف العام الماضي، عندما قرر وكيل رئيس الهيئة التنفيذية للقوات اللبنانية سمير جعجع، المحامي سليمان لبّوس، الدفاع عن اثنين من المتهمين الثلاثة، طالباً تأجيل عقد الجلسة للاستحصال على محاضر وأوراق ضرورية والاطلاع على الملف.
الواقع أن «التأجيل» سمة رافقت مسار دعوى نجاة حشيشو خلال عشرات الجلسات التي عقدتها محكمة جنايات صيدا طوال السنوات الماضية، حيث عمد المتهمون إلى التغيّب بالتناوب عن غالبية الجلسات، رغم عدم التبرير الجدّي لأسباب الغياب، علماً بأن المماطلة كانت ولا تزال السبب الرئيس وراء الغياب المتعمّد الذي أدى إلى إعاقة الاستماع إلى العديد من الشهود، وأحدهم حضر من الخارج بغية الإدلاء بشهادته.

ملف القضية الذي يحمل الرقم ٤٥٢ لا يُتوقع أن يبتّ اليوم. لكن مسار الدعوى يظهر أن المتهمين لم يقدموا أي دليل يثبت إنهاء حالة الخطف، ومن باب أولى أي دليل على حصول إنهاء حالة الاختطاف في الفترة التي شملها قانون العفو عام ١٩٩١. لذلك، فإن الجرم يعدّ تالياً متمادياً ومتتابعاً. ومن أصل آلاف حالات الخطف التي حصلت إبان الحرب الأهلية، تُعدّ دعوى حشيشو الوحيدة التي استطاعت تجاوز المعوقات التي رفعها أمراء الحرب لتبلغ مراحل المحاكمة النهائية.
كثر حاولوا إلصاق التهم السياسية والطائفية بالدعوى، لكن حشيشو تصرّ على أن قضيتها حقوقية إنسانية في الدرجة الأولى. تحمل نجاة ملفاً ضخماً يحوي وثائق وقصاصات الصحف التي تؤرّخ لنضالها الطويل. أفنت السيدة أجمل سنوات عمرها حاملة صورة زوجها في الاعتصامات والندوات والمؤتمرات، وفي مقابلة المسؤولين والمعنيين. في الغرفة التي خطف منها، تضع نجاة إلى جانب صورة زوجها صورة أولادها أسامة ومازن ومنى وهدى المغتربين في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية. «لا أريد أن أورث القضية لأولادي. تعبت. تعبت». تشهق الأم ماسحة دمعتها، وتواسي نفسها بالدخول إلى غرفة زوجها. نظارته لا تزال هناك، أوراقه وكتبه وثيابه وساعته، وصورة تجمعه مع أفراد عائلته في رحلتهم الترفيهية الأخيرة إلى قصر بيت الدين.
أسئلة أهالي المفقودين لم تجد أجوبة بعد. لم تُجب عنها وعود خطاب القسم، ولا البيان الوزاري لحكومة تصريف الأعمال، ولا مشروع البيان الوزاري للحكومة التي لم تؤلف بعد، ولا تعهدات لبنان أمام مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، ووعود عشرات النواب الذين تسابقوا لالتقاط الصور أمام خيمة المفقودين المنصوبة منذ سنوات ست أمام بيت الأمم المتحدة في بيروت، وبعضهم ينتمون إلى القوات اللبنانية التي يمكنها أن تقدم جواباً عن مصير محيي الدين حشيشو، لكنها تكابر مستقوية بقانون العفو العام، وإلحاقاً بقانون العفو الخاص عن قائدها سمير جعجع.
في حديقة الهلالية ترتسم ضحكة نادرة على وجه نجاة. تفرح بقطاف الأكي دنيا والليمون لزوارها. «هودي شغل لديار» تقول. الديار التي اشتقات إلى صاحبها، إلى أولاده الذين ألحّوا عليها بأن تسافر إلى الولايات المتحدة حيث استقروا، لكنّ نجاة لن تغيب عن جلسة المحكمة. القضاء حبل نجاتها المقصوص ربما، لكنها لم تفقد الأمل.

السابق
قمع المخالفات على طريق المطار والتشدد في منع تدفق مواد البناء جنوباً
التالي
اسود: جنبلاط لديه وجهة نظر إنطلاقا من حقوق ومصلحة طائفته