أسرار خطرة وراء “الكتيبة” الإعلامية

أدخلناها بيوتنا وشاركتنا حتى غرف نومنا وزوايانا الخاصة، وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من تفاصيل حياتنا اليومية، وهاجسنا وشغفنا، أدمناها وأصبحنا لها مريدين وتابعين، تسللت لأحلامنا وكوابيسنا، بموافقتنا ورضانا، ودفعنا ثمناً باهظاً لكي نستطيع الوصول إليها من مالنا ووقتنا وأعصابنا وعمرنا، ولم تلق معارضة من أحد، بل كان قبلنا سابقون وبعدنا لاحقون، وهي كعادتها تسعى لتقديم نفسها بأبهى حلة، وأشهى تقديم، وتستخدم كل الوسائل والأحاييل والألاعيب، الجميلة منها والقبيحة، للحصول على أكبر عدد من المريدين، ثم تستنزفهم وتستخدمهم كما تشاء ويشاء لها الهوى، وكما يطلب منها عرابها الذي يستثمرها ليحقق من خلالها غاياته وأهدافه على تنوعها، التي تسعى للهيمنة والسيطرة على مقدرات وثروات المريدين وتوجهاتهم وحياتهم والتحكم بهم وبآرائهم وقناعاتهم.
والهوى هنا هو الأثير الذي ولدت من رحمه آلاف القنوات التلفزيونية والفضائيات التي تتنوع سياساتها وبرامجها وأهدافها وأسباب ظهورها، من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، وكما هو الحال، تختلف من قناة فضائية إلى أخرى، نسبة المصداقية والمهنية والشفافية والتبعية للدول والجهات المختلفة التي تمولها وتنفق الأموال عليها، ومن الطبيعي أن يكون لأي قناة تلفزيونية خطاب وسياسة إعلامية وبرامجية تراها مناسبة لتحقيق أهدافها وغاياتها وتخدم الجهة التي تمولها إن كانت دولة أو جهة أو حزباً أو شخصاً أو غير ذلك، ولها علينا أن نحترم خطابها وسياستها ولو اختلفنا معها في الرأي، أما تلك التي امتهنت مهنة بنات الهوى، نقول لها إنه ليس لها عندنا أي ذرة احترام وليس لها أدنى مصداقية مهما حاولت أن تبدي لنا من زينتها وتقنعنا أنها تعطينا من نفسها حرصاً علينا، نحن عصمنا أنفسنا من أزمان بعيدة عنها بغض النظر عن شذوذ البعض منا نتيجة النفس الأمارة بالسوء، والوسائل الدنيئة في الاستقطاب والإغواء التي تتبعها تلك المحطات لكسب مريدين جدد أو أكثر.

ما يميز تلك القنوات هو فجورها في طرح بضاعتها واستماتتها في محاولات ترويج وتسويق هذه البضاعة والفتوى بتحليل كل الوسائل والطرق لتحقيق غايتها في توزيع سمها فيما تقدمه من دسم في بضاعتها، وعملت هذه القنوات سنوات طويلة واعتمدت على مهنية عالية وتقنيات متطورة، وتبنت قضايا إنسانية واجتماعية دقيقة تلامس عواطف ومشاعر شريحة كبيرة من المشاهدين بطريقة أقنعت فيها المشاهدين أنها حريصة وصادقة في طرحها ومتابعتها لتلك القضايا، وضخت في سبيل ذلك أموالاً طائلة دون أن يكون لها أي رافد مالي واضح، ما جعلنا منذ البداية نتساءل عن مصدر التمويل لهذه القنوات، والهدف الحقيقي من ضخ كل هذه الأموال، ولا يخفى على أحد أن الإعلام اليوم أصبح الأكثر تأثيراً في الشعوب والمجتمعات العربية والإسلامية وحتى الدولية، بل أصبح البعض يعتبر الإعلام سلاحاً يمكننا أن نستخدمه في وجه من نريد أن نوجه له رسائل مباشرة أم غير مباشرة أو كأداة مساومة في المفاوضات بين بعض الدول.

وتعتبر الفضائيات من أهم وسائل الإعلام اليوم والأشد تأثيراً في المتلقي بقوة الكلمة وسيطرة الصورة وكوادر متخصصة ومدربة، تسعى هذه الفضائيات إلى تحقيق أهداف محددة، بدقة شديدة ووقت قياسي، كالسلاح الحديث الدقيق والمؤثر والفتاك في حالة الحرب، واليوم يصرف العالم أموالاً طائلة في سبيل إنجاح الإعلام واستخدامه كإحدى وسائل الهجوم والدفاع والأمن ليؤثر في الناس في الداخل والخارج، بل وصل الأمر لدى بعض الجهات إلى اعتبار الوكالات الإخبارية هي وكالات استخباراتية أكثر من كونها وكالات إخبارية وإن هذه الوكالات هي مأجورة لمن يدفع لها أكثر، أو هي مشروع تجاري خطر للغاية تتناحر عليه الوكالات الاستخباراتية، ولا يهمها في النهاية إلا مصلحتها أو مصالحها ولو على حساب شعب يباد أو يقهر أو يموت جوعاً، وهم يتشدقون علينا بالحديث عن شرف المهنة والتباهي بالقول إن الناس تثق بهم وبقناتهم الفضائية أو وسيلتهم الإعلامية.

واعتماداً على ما سبق لعبت وتلعب بعض الفضائيات التي باتت معروفة للجميع دوراً أساسياً وفعالاً في خلق الفتن والتضليل والتحريض والتجييش للمجتمع العربي والدولي، وذلك عن طريق استغلال بساطة وبراءة المواطنين وثقتهم بمصداقية ومهنية هذه الفضائيات واعتقادهم أنهم يتابعون إعلاماً نزيهاً ومحايداً ويسعى إلى نقل الصورة كما هي دون تضليل أو تنفيذ لأجندات ومشاريع تريد التفتيت والتقسيم لكل دول المنطقة، فالحرب اليوم ليست بالأسلحة التقليدية فقط بل بأسلحة ووسائل تمهد للأسلحة التقليدية التي لن تميز حينها بين أبناء الوطن الواحد، فمن سيستخدم هذه الأسلحة يستهدف الوطن بمجمله أرضاً وشعباً، هنا يبرز الإعلام كسلاح متقدم في خلق الصراع بين أبناء الوطن الواحد، هذا الصراع الذي يمهد الطريق بدماء أبناء الوطن الذين غرر بهم واستطاعت تلك الفضائيات ذات البرنامج الممنهج والمدروس أن تديرهم وتستثمرهم بقليل من التضليل والتجييش المبني على نقاط ضعف في مجتمعاتنا ونسب جهل متفاوتة موجودة لدى عدد من أبناء بلدنا، هذا الصراع يمهد الطريق لأعداء الوطن في الداخل والخارج لكي تنفذ مشروعها الهادف إلى إلغائنا وتقسيمنا وتحويلنا من أسياد في هذا الوطن إلى منفذين وتابعين لقوى الشر والظلام في العالم.

ولا ينكر أحد أن هذه القنوات قد نجحت في بدايتها بإغراء الجمهور العربي وجذبه، كونها اعتمدت في بدايتها على المحتوى والمضمون، وتلاعبت بدهاء بدغدغة المشاعر وعزفت على أوتار القضايا العربية الأساسية كالقضية الفلسطينية، فسجلت في بداية انطلاقها نجاحات إعلامية باهرة والسبب أن إدارة الأخبار والبرامج وكادر القناة كان جلهم من أتقنوا العمل الإعلامي لذا بدؤوا يعملون باحترافية ومهنية، وابتعدوا عن المدرسة الحكومية للإعلام الممنهج ليكونوا أكثر إقناعاً ومتابعة من الجمهور العربي المتعطش للمعلومة، كما لعبوا على الأوتار التي يطرب المواطن العربي لها، ولامسوا الخطوط الحمراء التي كان المواطن العربي يعتقد أن لا أحد يستطيع الاقتراب منها، وناقشوا قضايا حساسة في مواضع كثيرة في الجسد العربي، وفتحوا أبواباً مغلقة منذ مئات السنين، وعبروا الحدود كافة بطريقة كانت مجهولة تذهلنا ولا نجد لإنجازاتهم تفسيراً نعرفه، وكنا نعيد الأمر إلى قوة الإعلام وسطوته، وكم الديمقراطية والحرية في بعض المجتمعات، لكننا اكتشفنا لاحقاً أننا مخطئون في تفسيرنا والآن عرفنا كيف ولماذا كانت تفتح لهم كل الحواجز والأبواب في كل بقاع العالم، تلك القنوات كانت تمهد وترسم لنيل ثقة الشعوب العربية بداية بأي ثمن ولهذا كانت مقنعة ويمكن تصنيفها بالمهنية، إلى أن وصلت إلى غايتها ثم أظهرت وجهها الحقيقي من خلال تعاطيها مع القضايا العربية كافة.

وللأسف أصبح المواطن العادي أو الجمهور العربي بشكل عام أسيراً لما تبثه هذه الوسائل الإعلامية الخليجية المُستعربة التي تحمل أسماء عربية وهي بعيدة كل البعد عن العروبة والإسلام، فأصبحت تلك الوسائل الإعلامية مرئية ومسموعة ومقروءة، هي مصدر المعلومة الرئيس، وهي التي تساهم في توجيه الجماهير، بسبب فشل وضعف وغياب القنوات الحكومية، لكن الجمهور المتحمس عادة يصعب إقناعه بالدور الخبيث الذي تلعبه تلك القنوات، ولا يقتنع إلا بوجود دلائل ملموسة وإثباتات قاطعة، ونعتقد أيضاً أن بعض المغرر بهم لن يقتنعوا تمام الاقتناع حتى وإن شاهدوا كوارث وأكاذيب تلك القنوات، لكون هذه القنوات تمكنت من السيطرة على عقول وقناعات جمهورها الذي أدمنها إلى حد الهوس عبر تقديم سموم الإدمان في مواقع ووجبات دسمة مدروسة ومختارة بعناية.
ومع كل ما ظهر من كذب وتلفيق على شاشات تلك القنوات، يبدو جلياً أن هنالك أجندة خاصة لم تعد سرية أو خافية على أحد، وأن الأخبار والبرامج السياسية تطبخ في مطابخ سرية متفق عليها، وسواء كان القائمون على المحطة أو ممولوها أو ضيوفها من محللين ومحرضين ومرتزقة، فهم كلهم شركاء في تلك الوجبات الإعلامية السامة.

أصبح جلياً أن ما يفعله بعض الفضائيات والإذاعات العربية المأجورة يدفع إلى خلق الأزمات والفتن الطائفية والعنصرية وكما هو معلوم أن هذه القنوات المسيئة لا تعبر عن آراء موظفيها وكوادرها بل تعبر عن آراء حكامها وممولي هذه القنوات، ومن المعروف أيضاً أن هذه القنوات ومحتضنيها هم أعداء للأمتين العربية والإسلامية وذيول للاعبين الأساسيين وللكبار من أسيادهم وبذلك تعتبر هذه القنوات أدوات الطغاة وصنائعهم ويجب على الإعلام الشريف الذي يمثل الشعب وتطلعاته أن يكشف هذه القنوات ويفند أفعالها ويفضح أوراقها وخاصة بعد أن أصبح للإعلام الدور النافذ والمؤثر في ظل غياب إعلام عربي ملتزم وفاعل يخدم قضايا الأمة والمنطقة بصورة نزيهة وصادقة.

وبغض النظر عما تتمتع به تلك القنوات المأجورة من مستوى إعلامي متميز وراقٍ، إلا أن ما وراء تلك الكتيبة الإعلامية الضخمة مهنياً أسرار خطرة للغاية، فبعض تلك القنوات اتخذ منذ انطلاقه موقفاً بتخصيص الجزء الأكبر من وقته وجهد كوادره الإعلامية بهدف إثارة القلاقل والفتن في الدول العربية أولاً بين الدول وثانياً بين الشعوب وحكوماتها وثالثاً بين أبناء البلد الواحد والشعب الواحد، وذلك بالبحث والتركيز على كل الصور السلبية في هذه الدول أو تلك في أي مجال اقتصادي أو سياسي أو اجتماعي أو ديني أو مذهبي، وتسليط الأضواء عليها من خلال برامج حوارية ومداخلات مباشرة من مراسليها من مواقع الأحداث واستفاضة ما يسمونهم الخبراء والمختصين على الهواء مباشرة لإضفاء المزيد من الإثارة على هذه النقطة أو تلك، وفي العادة يتم انتقاء هؤلاء الضيوف من صفوف المعارضين لهذا النظام العربي أو تلك الحكومة والقيادة العربية أو من الزعماء المصنعين لشرائح ومجموعات تهدف إلى إحداث شرخ في جسد الشعب والبلد بشكل يزعزع ويهدد بتفتيت الجسد الواحد، وتعمل على تغذية الفتنة والكذب وهذا هو سر ظهورها وتفوقها في البدايات على القنوات الإخبارية الأخرى مع التركيز على انتقاء دول عربية بعينها والتركيز عليها، ووصلت هذه القنوات في استهتارها بعقلية المتلقي العربي حدود الاستغفال وبدأت تجاهر بفضح وإعلان ما تسعى إليه أو ما تكلف به بشكل مباشر وصريح، وهي بذلك تمثل الأنموذج الأمثل والأدق للإعلام المأجور.

السابق
بن لادن وأزمة العقل الإسلامي
التالي
لنحذر حرب الطوائف