عن عامل سوري في لبنان

في مديح سورية وشعبها وثورته على الاستبداد والفساد، لا بد من الانحناء امام التضحيات التي تصفعنا نحن اللبنانيين كل يوم لتذكرنا بأن مقتضى الاخوة اللبنانية السورية هو الانحياز لخيار الحرية في سورية من دون اي تبرير او تمهيد او استدراك. وفي حياتنا اللبنانية ايضا ما يصادفنا في يومياتنا، من اولئك القادمين من سورية بحثا عن فرصة عمل ورزق حلال. وكثير منا من نسج معهم علاقات فيها من الصداقة ومن المصالح التي تتطلب الاستعانة ببعضهم في اعمال شتى. وانا من اولئك الذين نسجوا علاقات في هذا السياق، وواحد منهم عرفته منذ سنوات، انبنت ثقة بيننا كان الصدق والالتزام المهني طاقتا استمرارها.

وكعادة متبادلة بيننا اننا نتجنب الحديث في شؤون سياسية تتصل بقضايا سورية داخلية، لكن صاحبنا كان يحرص اذا باغته احد بالسؤال عن شأن سوري داخلي والح عليه، ان يثني على اوضاع بلاده والسلطة فيها من دون توسع او استعراض. في الايام الاخيرة فاجأني حين راح لسانه يطلق ما يختزن في نفسه من شعور بالقهر كما بدا لي، وكأني ارى شخصا اخر لم اعرفه طيلة هذه السنوات. ما كشف عن هذا الوجه الجديد، تساؤل طرحته عفوا، حول مدى صدقية الاجهزة الامنية السورية حين تتحدث عن مجموعات تخريبية تقف وراء مقتل عشرات الضباط والجنود السوريين، قلت بصراحة يصعب علي ان اقتنع بما تدعيه هذه الاجهزة.
كان تعليقه المباغت والمفاجىء: ومن يصدقهم؟

وتابع من يقف امامك كان عضوا في حزب البعث كما العديد من ابناء بلدتنا. وقال قبل سنوات وفي احدى الاجتماعات الحزبية التي كنا نحضرها: طلب منا نحن الحزبيين ان يضع كل منا صورة الرئيس الاسد كل في بيته. "وبعد انفضاض الاجتماع سألني احد رفاقي حول ما سأفعله لتأمين هذه الصورة التي يجب ان تكون محفوظة في اطار مزخرف. فقلت له ان الامر يتطلب 300 ليرة لانجازه واحوالي المادية لا تسمح الآن، لصرف مبلغ يطعم عائلتي خبزا لمدة شهر على الاقل".

تابع صاحبنا: لم تمض الليلة على ما قلت، حتى كنت في مكان لم اعرف ولا اعرف اين هو ولمن، اعتقلت وجرى تعذيبي بسبب هذه العبارة التي تلفظت بها، واشار الى علامات التعذيب التي لم تفارق جسده رغم مرور اكثر من 8سنوات. ثمن شهر الخبز، كان شهر من الاعتقال والتعذيب، "لم يفرج عني الا بعد ان دفع الاهل والاقارب مبالغ لا بأس بها من المال. وبعد الافراج عني كنت في حال يرثى لها ليبدأ مسلسل جديد من عمليات ابتزاز شبه يومية من خلال مداهمات لمنزلي من اجل فرض خوة من هذا الجهاز الامني او ذاك، تحت تهديد انني ما زلت قيد المراقبة ومعرضا في كل لحظة للاعتقال.

يستكمل صاحبنا حكايته ويقول قررت ان اخرج من البلد ولم يكن من خيار امامي سوى لبنان. واضاف الحياة ما عادت تطاق لذا غادرت لانه لم يعد بامكاني العمل بشكل طبيعي، واستطرد قائلا ان هذه الاجهزة التي يعرفها الناس يمكن ان تتجاوز ما تريد ولديها من الاساليب ما لا يخطر في بال لأنها الامر الناهي.

هذه الحادثة قد تبدو عادية بين ما نسمعه من سير الاستبداد وصيت الاجهزة الامنية الذائع، لكنني انقلها لأدل على ان الاستبداد كفيل بأن يشوه المجتمعات، ويجعل من الافراد الرازحين تحته في حال من الازدواجية الشخصية بين ما يقولون وما يؤمنون به، واذا كان من مظاهر عنفية قد تظهر في بعض الاحيان من الناس، فهي حصيلة موضوعية لكبت مزمن ومصادرة متمادية لارادتهم وطموحاتهم المشروعة في التعبير عن ارائهم. وامام معضلة الاستبداد والمصادرة لا يتقدم شيىء حتى عنوان تحرير فلسطين فضلا عن الجولان. ذلك ان المقاومة اوعملية التحرير، لم تكن يوما الى انبثاقا من حرية الانسان ولكرامة الفرد وتعبيرا حرا عن ارادة المجتمع. في نظم الاستبداد لا مكان للتحرير لانه لا مكان للحرية، مهما نجحت بعض الانظمة الاستبدادية في اضفاء بعد نضالي موهوم على سياساتها.

في لبنان طموح عام بأن تخطو سورية خطوات ثابتة باتجاه الحرية والديمقراطية، في لبنان الم مجبول بامل ان يتحقق هذا القدر الحتمي في استعادة الشعب السوري ارادته السياسية، باقل الاكلاف الممكنة وان كان اداء السلطة السورية يبعث على الالم لا الامل.

السابق
صراع خامنئي ونجاد وعين على أميركا
التالي
حرية الكلمة ضريبة دم دفعها شهداء الصحافة