هل عادت فرنسا؟

من الغباء المحض أن نتصور أن فرنسا تحاول استرجاع إمبراطوريتها البائدة، فلم تعد الإمبراطوريات البائدة تحمل أي منطق، والمشاكل الحقيقية اليوم تختلف اختلافاً شاسعاً عن المشاكل التي واجهتها الإمبراطوريات الاستعمارية في أوج قوتها، وبات من غير الممكن الآن التعامل مع هذه المشاكل بالطريقة الإمبريالية.

تُرى إلى أي مدى قد يكون من الصعب على كيان ما أن يمحو ماضيه كقوة استعمارية؟ لقد نالت تونس استقلالها منذ خمسة وخمسين عاما، واستقلت كوت ديفوار منذ واحد وخمسين عاما، وعلى الرغم من ذلك تعود فرنسا مرة أخرى إلى الاضطلاع بدور حاسم في هذين البلدين، فبطبيعة الحال، لم يقتنع العديد من الأفارقة بأن فرنسا قد تتحرك لمجرد الدفاع عن أرواح بضعة آلاف من مواطنيها، وليس لحماية مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية، التي تكاد تكون كماً مهملاً في نظر الأفارقة ولا شيء على الإطلاق بالنسبة إلى فرنسا.

لقد خَلَّف الضرر الذي ألحقته العبودية والاستعمار بهذه البلدان إرثاً بالغ القوة، وعلى الرغم من أنها نجحت في تدبر أمورها لعقود من الزمان، فإن فرنسا لاتزال ملتزمة بواجب الصداقة الذي يمنعها من النسيان ويفرض عليها أن تتبنى نمطاً معيناً من السلوك. إن كوت ديفوار تتمتع بثروة زراعية كبيرة- إلى جانب الذهب والماس والحديد-؛ وتمتلك تونس مخزوناً ضخماً من راسب الفوسفات؛ وليبيا لديها النفط؛ وكل البلدان الثلاثة تتمتع بمناخ معتدل نسبياً، ولكنها لم تشهد انطلاقة اقتصادية بعد الاستقلال. فلماذا؟ زعم المؤرخ وعالم الاجتماع الفرنسي إيمانويل تود أن الانطلاقة الاقتصادية في كل مكان من العالم تبدأ عادة بعد ستين إلى سبعين عاماً من تمكن 50% من السكان من تعلم القراءة والكتابة. فضلاً عن ذلك، فكلما ارتفع متوسط سن الزواج بين النساء، كان انتشار معرفة القراءة والكتابة أسرع، وكلما توافر المزيد من الوقت للمرأة للحياة بمفردها واكتساب المعرفة، تعاظمت رغبتها وقدرتها على تمرير المعرفة لأبنائها.

وكانت منطقة شمال ألمانيا ثم منطقة جنوب البلدان الاسكندنافية من أوائل المناطق التي شهدت انتشاراً غالباً لمعرفة القراءة والكتابة، والذي تبعته عملية تنمية اقتصادية أكثر سرعة بعد بضعة عقود من الزمان. وفي مثل هذه المناطق كان متوسط سن الزواج بين النساء نحو 23 سنة لبعض الوقت. أما في العالم العربي وأغلب إفريقيا فإن النساء يتزوجن في المتوسط في سن الخامسة عشرة تقريبا. وتمثل تونس ومصر وليبيا ثلاث حالات واضحة للغضب الشعبي الهائل ضد التخلف الاقتصادي والأنظمة الدكتاتورية التي استحقت اللائمة عن ذلك التخلف، والفارق الأكبر بين البلدان الثلاثة هو أن التنمية الاقتصادية في تونس ومصر كانت قد قطعت شوطاً طويلاً بالقدر الكافي لنشوء طبقة متوسطة من التجار والموظفين، وهي الطبقة التي بدأت التمرد والتي كان عدد أفرادها كافياً لإحراز النجاح؛ على الأقل في الإطاحة بالطغاة. أما ليبيا فهي دولة مختلفة تمام الاختلاف، فالغضب الذي يتغذى على البؤس ونقص الغذاء هناك شعبي لا بورجوازي، والقوى المقاومة هناك محدودة للغاية، في حين تظل المؤسسة العسكرية- الأداة الرئيسة لتحقيق التقدم الاجتماعي للفقراء- في قبضة النظام الدكتاتوري، ومن غير الممكن أن ينجح التمرد بالاعتماد على ذاته؛ فمنذ البداية كان القمع الدموي الرهيب متوقعاً. ولا تشبه كوت ديفوار شمال إفريقيا: فمتاعبها محلية وعرقية ودينية محضة. كان أول رئيس للجمهورية هناك، وهو فيلكس هوفويه بوانيي، قد انتخب عند الاستقلال في عام 1960، وظل في منصبه حتى وفاته في عام 1993، وكان حريصاً بشكل دائم على بناء حكومات ينتمي ممثلوها إلى كل القبائل، وتتسم بالتوازن بين الجنوب الكاثوليكي والشمال المسلم. ولم يكن هنري كونان بيدييه، خليفة هوفويه بوانيي، يتمتع بموهبة سلفه وشجاعته، فقد اعتمد بيدييه على الكاثوليك في ترسيخ سلطته في البلاد، وأسس حكومته استناداً إلى العضوية القَبَلية، كما اخترع مفهوم الشرعية القائم على الهوية الإيفوارية، والتي كان المقصود منها إلى حد كبير حرمان مسلمي الشمال من أهليتهم بوصفهم أجانب، وذلك لأن قبائلهم تمتد إلى مالي وبوركينا فاسو. ولقد أشعلت هذه السياسة صراعاً كامنا، إذ انتهى انقلاب عسكري في عام 1999 إلى وضع الجنرال روبرت غويي على رأس السلطة، ولكنه استمر في السلطة لثلاثة أعوام فقط، إذ دفع اغتياله في عام 2002 الجانبين المتصارعين في البلاد إلى شفا الحرب الأهلية. في هذا المناخ المتوتر حُرِم المرشح الشمالي الحسن واتارا، المسلم والمسؤول الكبير السابق في صندوق النقد الدولي، من حقه في خوض الانتخابات الرئاسية في عام 2005، ورفض الجنوبي لوران غباغبو الفائز آنذاك الاعتراف بهزيمته أمام واتارا في عام 2010، الأمر الذي أدى إلى اشتعال صراع عنيف والخوف من اندلاع حرب أهلية طويلة محتملة وعمليات إبادة جماعية.

كانت مذابح المدنيين متوقعة في كل من ليبيا وكوت ديفوار، ففي الحالتين كان السؤال المطروح في باريس وغيرها من العواصم هو هل التدخل واجب؟ وفي الحالتين كان لدى فرنسا مصلحة واضحة في عدم التدخل، حتى تمحو ماضيها الاستعماري (في كوت ديفوار بشكل خاص، مقارنة بليبيا التي كان مستعمرها الأوروبي إيطاليا). ولكن عشرات الألوف من المواطنين الفرنسيون يعيشون في كوت ديفوار، وكان لزاماً على فرنسا أن تحميهم. وفي ليبيا، أدى العنف الوحشي الذي تبناه العقيد معمر القذافي في التعامل مع الثوار إلى دفع الموقف هناك بقوة إلى الاندراج تحت اختصاص مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ولقد أعلنت الأمم المتحدة أخيراً عن المسؤولية عن حماية المدنيين المهددين من قِبَل حكوماتهم. والآن أصبح المدنيون الليبيون تحت حماية القانون الدولي، ولم يتحقق ذلك إلا بصدور قرار دولي، والواقع أن تصويت لبنان لمصلحة التدخل العسكري في ليبيا لم يعمل على تعزيز شرعية التدخل فحسب، بل أثار بعض الشكوك في أن إيران تدين وحشية القذافي، أيضاً. وبمجرد اتخاذ قرار التدخل، أصبحت فرنسا صاحبة أكبر قوات مسلحة في منطقة البحر الأبيض المتوسط الدولة الأكثر وضوحاً بين البلدان المتدخلة- وكان بوسع قِلة من البلدان الأخرى أن تنضم إليها، مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة ومن المؤسف أن التضامن الدولي فيما يتصل بحماية السكان المهددين بالموت لم يتحقق بعد. ومكمن الخطر هنا هو أن القوى الإمبريالية السابقة، في الكثير من أنحاء إفريقيا، لاتزال موضع اشتباه كونها لاتزال استعمارية، وهو ما قد يجعل من تطور القانون الدولي مجرد لعبة من ألعاب القوة. وتجلى هذا بشكل أوضح في كوت ديفوار: فالأمم المتحدة هي التي طالبت صراحة بأن تكون فرنسا، صاحبة القوة الأجنبية الوحيدة الموجودة هناك، هي القائمة على تنفيذ القرار الذي صادق على واتارا بوصفه الرئيس الشرعي المنتخب وأدان غباغبو باعتباره الغاصب. ولقد تولت فرنسا المهمة بشكل جيد، فكانت حريصة- على سبيل المثال- على ترك مسألة إلقاء القبض على غباغبو لقوات واتارا، وبهذا تجنبت البلاد الحرب الأهلية. إنه لغباء محض أن نتصور أن فرنسا تحاول استرجاع إمبراطوريتها البائدة، فلم تعد الإمبراطوريات البائدة تحمل أي منطق، والمشاكل الحقيقية اليوم تختلف اختلافاً شاسعاً عن المشاكل التي واجهتها الإمبراطوريات الاستعمارية في أوج قوتها، وبات من غير الممكن الآن التعامل مع هذه المشاكل بالطريقة الإمبريالية. والواقع أن الأمر يحتاج اليوم حقاً إلى اقتناع الرأي العام العالمي بضرورة إنشاء آلية دولية فعالة لمراقبة السلام وحقوق الإنسان.

ترجمة الجريدة

السابق
الإخوان والنهضة وامتحان ما بعد الثورة
التالي
الحل الوحيد هو الحل الأصعب