إعادة الاعتبار للجماهير

منذ التظاهرة، تحت المطر الغزير، التي افتتحت في 6 آذار الماضي سلسلة التحركات الشعبية لإسقاط النظام الطائفي اللبناني، كان واضحاً دور الانتفاضات في بلدان عربية عديدة، ولا سيما في تونس ومصر، في تحفيز تلك التحركات، وتسريعها، وإعطائها ديمومتها. وهو ما عبّرت عنه إلى هذا الحد أو ذاك، اللازمة التي بدأت تتردد مذّاك، على ألسنة المتظاهرين: «ثورة ثورة بكلّ مكان، جايي دورك يا لبنان».
في كلّ حال، سبق تلك الانتفاضات تحرك من أجل مجتمع ودولة ديموقراطيين علمانيين، وكانت مسيرة العلمانيين في الثلث الأخير من نيسان 2010، صورة عنه. ذلك لو أنّها أعطت آنذاك ـــــ رغم نجاحها في جمع الآلاف من رافضي الانشطار الطائفي المتفاقم، والتائقين إلى إسقاط النظام السياسي ـــ الاجتماعي للطوائف والمذاهب المتناحرة ـــــ انطباعاً بأنّها قد لا تتجاوز تذكيراً موسمياً بهذا الرفض، لمرة واحدة كلّ عام.
هذا الانطباع يتبدَّد الآن، مُخلياً المكان لعمل دائبٍ على الأرض تشارك فيه أعداد واسعة من الشبيبة، الفئة الأكثر تضرراً من النظام المذكور. وهو نظام يتلازم فيه أقصى الفساد والزبائنية والمحسوبية ونهب المال العام، وحرمان غالبية كبرى من السكان، معظمهم في صفوف الشبيبة، فرص العمل، ولا سيما العمل المجزي المتناسب وكفاءات طالبيه، مع المخاطر الدائمة للنزاعات الطائفية والمذهبية. نزاعات تهدد بالتحول إلى حروب أهلية مدمرة تستفيد منها، كما من الواقع المفضي إليها، بورجوازيةٌ محلية طفيلية، متحالفة، في الغالب من مواقع التبعية والارتهان، مع الشركات الأجنبية الكبرى والإمبريالية العالمية، أو مع بيروقراطيات بورجوازية إقليمية، داخلة في صراع متفاوت حدةً وجدِّيةً مع تلك الأخيرة. وهو أيضاً نظام يجمع إلى الهشاشة العائدة إلى واقعه الطبقي، قوةً حقيقية يستمدها من البنية الطائفية، المنغرسة في تاريخ طويل من النزاعات الأهلية المدمِّرة، كما من التمييز السياسي والاجتماعي. تمييز يعبّر عن نفسه في قواعد دستورية، سواء تلك المنصوص عليها في دستور 1926 والتعديلات الأخيرة، بعد اتفاق الطائف، أو تلك المرتبطة بالأعراف والتقاليد؛ وحتى في قوانين، ولا سيما قوانين الأحوال الشخصية. وهي قوة تجعل من المشروع التساؤل عن الحظوظ الفعلية لأن تنجح بمواجهتها حركةٌ يغلب فيها إلى الآن الطابع العفوي، وإن كانت تحاول تجاوز ذلك إلى قدْرٍ متفاوت الجدية من التنظيم.

بين العفوية والتنظيم

لقد كان بين الشعارات التي رُفعت خلال التظاهرة الكبرى في 20 آذار/ مارس الماضي، التي انطلقت من ساحة ساسين في الأشرفية إلى وزارة الداخلية، شعار يرفض الأحزاب، وقيادتها. وهو شعار تحوَّل أيضاً إلى هتافات بالمضمون عينه، في بعض أنحائها. مع العلم بأنّ جزءاً هاماً من المشاركين فيها ينتمون إلى منظمات حزبية تنتسب إلى اليسار، ولا سيما الماركسي منه.
وبالطبع، لا بد من تفهُّم هذا الموقف، في جانب أساسي منه، بسبب فشل تلك المنظمات (ونحن نتحدث عن تلك التي أمكنها مراراً، في تاريخها الطويل، أن تكون في مواقع الفعل، وتحوز انتشاراً جماهيرياً حقيقياً)، في العمل على استقطاب الحالة الشعبية الواسعة تحت شعار العلمنة وإسقاط النظام الطائفي، بصورة جذرية، ولا سيما خلال حرب السنتين (1975ــــ 1976)، فضلاً عن فشل تلك المنظمات أيضاً، في رفع برامج للتغيير الثوري، تقطع عبرها، نهائياً، وبالكامل، مع النظام البورجوازي الطائفي القائم ومؤسساته. بيد أنّ هذا الموقف النقدي ينبغي أن لا يتحول إلى مدخل لتقديس العفوية، ورفض أيٍّ من أشكال القيادة، ليس فقط بما هي تعبير عن وجود منظمين فعليين لعملية التغيير، بل عن امتلاك هؤلاء أيضاً برنامجاً منسجماً ومتكاملاً. برنامج يجمع إلى مطلب العلمنة الشاملة (سواء في ما يتعلق بالفصل التام بين الدين والدولة، أو في ما يخص علمنة الأحوال الشخصية وإقرار قانون مدني بصددها) وحريات التجمع وتأسيس الأحزاب، والتعبير عن الرأي، والتظاهر والإضراب، وما إلى ذلك، مطالب أساسية تمثّل، على صعيد حق العمل ومستوى المعيشة، وضمانات الصحة والشيخوخة، وتعزيز القطاع العام وتحريره من الفساد، وإخضاعه لرقابة العاملين فيه، ومشاركة المنتجين في إدارة إنتاجهم، تجاوزاً للديموقراطية السياسية نحو إقرار ديموقراطية اجتماعية حقيقية.
فرغم أنّ في الدعوات إلى التظاهر، الصادرة عن اللجنة الأساسية لتنسيق التحرك الحالي، تحت شعار إسقاط النظام الطائفي، العديد من المطالب التي تندرج في جانب مهم من الرؤية الواردة أعلاه، إلا أنّها تبقى عند درجة دنيا من تصور عملية التغيير تلك. كذلك فإنّها فيما تُترجَم، في هتافات المشاركين في المسيرات، إلى شعارات تستحضر الثورة، وتكثر من تردادها، تفشل في أن تتجاوز عملياً الرؤية الإصلاحية الجزئية إلى رؤية ثورية متكاملة. وهو أمر غير مستغرب، إذا نظرنا إلى ما تمثّله الروافد الكثيرة للحراك الحالي من واقع هجين يفتقد الحد الأدنى من الانسجام الفكري والبرنامجي في آن واحد. علماً بأنّ ذلك يفسح في المجال أمام ازدهار المساعي الكثيرة، من جانب قوى من داخل النظام الطائفي البورجوازي القائم، لمصادرة التحرك أو التشويش عليه، أو إفساده. والحجة لدى هؤلاء هي أنّ مطلب العلمنة مطلب قصوي لا يتناسب مع الواقع اللبناني الراهن، وأنّ توجيه النقد ليس فقط إلى النظام الطائفي، بل إلى رموزه أيضاً، لا يخدم سيرورة التغيير التي ينخرط فيها الجمهور الواسع من الحالمين به، والساعين لإنجازه.
أكثر من ذلك، إذا كانت هذه الروافد الآتية من مواقع شتى، التي تشهد اجتماعاتها العامة فوضى واسعة جداً، ناجمة عن غياب الحد الأدنى من مقومات الوحدة البرنامجية، إذا كانت تلتقي، في جزء أساسي منها حول الواقع الذي ترفضه، إلا أنّها لم تنجح إلى الآن في بلورة رؤية حقيقية لما ترى فيه بديلاً متكاملاً من الواقع الطائفي الراهن للنظام القائم، وهو ما يجب العمل بصورة جدية ودائبة على توفير شروطه. ومن ضمن تلك الشروط، تصوّر الآلية المناسبة لإسقاط النظام المذكور، هذه الآلية التي رفعها المنتفضون في أكثر من بلد عربي، في الأشهر الأخيرة، وإن كان البلد الوحيد الذي نجح شعبه إلى الآن في فرضها، إنما هو تونس بالذات. وذلك بالضبط لأنّه نجح في فرز قيادة جذرية متقدمة لانتفاضته، هي المتمثلة بجبهة 14 جانفيه/ كانون الثاني، التي أصرّت حتى النهاية على تعبئة الحَراك الجماهيري تحت شعارات جذرية تقطع مع كامل النظام القديم، ومن ضمنها، بنحو أخص، الجمعية التأسيسية المنتخبة.

لأجل دستور ديموقراطي علماني

في اجتماعات لجنة التنسيق، التي تمثّل عملياً ما يمكن اعتباره نواةً قيادية للتحرك الراهن، فشل مطلب الجمعية التأسيسية، الذي طرحه أحد أعضاء هذه اللجنة، في استثارة نقاشٍ جدِّيٍّ هادف، يفضي إلى تبنِّيه والبدء بالتعبئة الواسعة حوله. وهو ما يجب أن يكون أحد العناوين الأهم لنضال الجناح الأكثر جذرية داخل اللجنة المذكورة، كما داخل الحراك الواسع الراهن، الذي يشهده بلدنا، في الطريق إلى مجتمع جديد، قادر على الحيلولة بعد الآن دون تحوُّل أي صعود جماهيري ثوري إلى فتنة طائفية، وحرب أهلية متمادية. لقد شهد لبنان، خلال القرن الماضي، محطاتٍ عديدةً كان تُجرى خلالها تعديلات على نظامه، وإقرار تسويات تحدِّد مبادئ للحكم فيه. لكن في كلّ تلك الحالات المفصلية، سواء حين أُقرّ دستور 1926، بتوجيهٍ حاسم من المندوب السامي الفرنسي، أو حين جرى التفاهم على الميثاق الوطني في 1943(بين ممثلَين للبورجوازيتين السنية والمارونية، هما بشارة الخوري ورياض الصلح)، أو حين جرى تبني اتفاق الطائف، في خريف 1989، كان الشعب اللبناني مستبعداً بالكامل عن إبداء رأيه في طريقة حكمه، والمبادئ التي تنظم المسار العام لحياته ومصير بلده. لأجل ذلك، لا بد للحراك الشعبي الحالي الذي يشهده لبنان من أن يُشكل إعادة نظر جذرية لهذا الواقع، في اتجاه إعادة الاعتبار إلى دور الجماهير الشعبية اللبنانية في إنتاج مستقبلها، والتحكم بمصيرها. ويمكن تحقيق ذلك، عبر فرض انتخاب جمعية تأسيسية، تنتج دستوراً علمانياً ديموقراطياً يكون مدخل لبنان إلى مواكبة سيرورة التغيير الثورية الراهنة التي تجتاح الوطن العربي.

السابق
البطريرك الجديد: واقع ورؤيا جامعة
التالي
الشيعية السياسية في مرمى الانتفاضات العربية