العجيبة اللبنانية

لم تكن الدولة، كبنية، تنتظر إضرابات المعترضين على ما قد تحمله الموازنة من اقتطاعات من رواتب القطاع العام ومتقاعديه، حتى يتم إشهار موتها. ذلك أن تسلسل الأمور المنطقي، منذ “تخلي” الإنتداب الفرنسي عنا، لم يفوّت فرصة من دون تأكيد تخلخل هيكلها، ودوس هيبتها، ومسح أي ملمح احترام لسلطتها، فيما الرغبة أكيدة عند قاطني أراضيها، المعروفين باسم اللبنانيين، أن يوّلوا على أنفسهم زعامات إقطاعية ودينية ومذهبية، وضيقي أفق، في حنين إلى عيش أهل المضارب، حيث العادات والتقاليد و”شيخ القعدة” هم الدولة ومشرعّو قوانينها. كيف لا وقد تحولت بكركي مرجعية لحسم إشكالية خطوط التوتر العالي في الديشونية، فيما ضابط متقاعد، أي “إبن الدولة” وحامي أرضها وسيادتها (على ما تلهج به أدبيات المدائح للجيش) يناشد، عبر محطات التلفزة، أمين عام حزب الله أن”يعمل لإنصاف المتقاعدين، ويذود عن حقوقهم”، فيما زميل له يهدد باحتلال السراي الحكومي.

اقرأ أيضاً: لبنان يتغيّر: واشنطن «الأم الحنون» بدل باريس وطهران تحت المراقبة؟

قد لا يكفي هذان النموذجان للإشارة إلى إخلاء الوعي العام اللبناني من الدولة، كمرجعية مشتركة، بقوانينها واحتكارها وسائل القوة والإرغام. لكن من يستعرض وقائع الأسبوعين الأخيرين سيستنتج أنه لم يعد لآليات عمل المؤسسات، ودورها، أي احترام لدى المواطن، ولا رجاء في قدرتها وقراراتها، فيما تطبيق القوانين يخضع لهويات المتخاصمين السياسية أو المذهبية أو المناطقية، وأحيانا لجميعها في آن. فنزلاء سجن رومية من الإسلاميين قضوا سنوات فيه يتخطى عددها ما قد يحكمون به من عقوبات، وفيما يحكم بعقوبة شبه رمزية على من ثبتت عليه تهمة التعامل مع اسرائيل. وفيما باتت اعتقالات الناشطين على مواقع التواصل الإجتماعي أشبه برياضة يومية لقوى الأمن والقضاء، نجد تكريس استداد الحق (إذا جاز التعبير) باليد أمرا من طبيعة الحياة العامة في وطن الأرز، لاسيما إذا طال النقد، وحتى التهجم المعنوي، أحد “قديسي السلطة” وعائلته، ونسب إليهم جني ثرواتهم من تعب الناس.
وليس أفجع من ذلك سوى أن القضاء، في جزء منه، منخرط في الخروج على القانون، ومن نحو ذلك أن نقلت الصحف أن محاميا عاما استئنافيا في جبل لبنان، اشترط مثول موقوف امام قاضي التحقيق قبل السماح له بمقابلة محاميه، خلافا لنص المادة 47 من أصول المحاكمات الجزائية. ومما فاض به إناء الدولة اشتباك القاضي بيتر جرمانوس مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكريّة مع قيادة قوى الأمن الداخلي بما يشبه الردح من فوق السطوح في الأحياء الشعبية.
تفكك الدولة وتشظيها عميم، كما من تحت، كذلك من فوق. يكفي قول النائب، الوزير السابق ياسين جابر إن “الموقف اللبناني الموحد” في واشنطن(زيارة الوفد البرلماني) وفي بيروت (على مسامع ساترفيلد) “أرسل رسالة ايجابية إلى الخارج”.
جابر على حق: الموقف الموحد ليس عجيبة لبنانية… إنه معجزة في زمن الغاء الدولة.

السابق
القيمة المعرفيّة للدّين
التالي
ريفي عن الرئيس عون: يقول ويتناسى!