بيّاع الزمان

نص كتبته المحامية ربى عيسى تضمن تحية إلى الشاعر طلال حيدر.

لم أكن أعرفه ، ولم أكن أشعر بحاجة إلى معرفته . كنت آنذاك شاباً صغيراً ، متحمسّاً ، أخرقاً ، أريد أن أغيّر العالم . وأنا في طريقي إلى ساحة ” التروكاديرو ” بمدينة باريس رفقة ” محمود درويش ” لنلتقي ذلك الغريب في مقهى ” الديك ” وطول الطريق كنت أتصوّر شخصاً يشبهنا ، يتميّز بالصمت والرصانة . فرأيت رجلاً لا يخفي عواطفه المتقلبّة ولا يحسب أي حساب لأي شيء .
” دنجوان ” ببدلته الايطاليّة الانيقة ، يحب الضحك ، مفتوح الصدر . قلبه يكرج على الايدي بسخاء فيضانيّ ، يشرب حتّى يتعتعه السكر . والقصيدة الوحيدة التي حفظتها منذ ذلك الحين ، هي حريته المطلقة . تارة يتحوّل الى اب حنون يحكي عن اولاده بحب فائق وطوراً يحكي بشغف مارق عن عشيقاته في كل أصقاع الارض وفي نفس الوقت كان زوجاً مشغول البال ونهر الحب الجارف لشريكته في صمت القصيدة التي لم يكتبها بعد . ثمّ يسيل شعره بهيستيريا جنونيّة .
تفجرّ أعمى ، لم يكن يقول الشعر ، كان هو الشعر بعينه . كان قصائد لا تنتهي .
في آخر اللقاء قال لي محمود : شو هالبركان هيدا ! ؟
من الصعب لمن لا يعرفه ، ولمن لا يراه يجلس ويشرب ويحشّش ويمشي معه أن يكوّن فكرة حقيقيّة عن شخصيته . يرقص عارياً تحت الشمس بلا حياء وحتى الاغماء ، يقهقه بفرح الوجود الكئيب وعندما يرقص يحوّل الوجود بركاناً ثائراً واعجوبة .
رقّص كل النساء من أجل راعية .

إقرأ أيضاً: «أنتظر حُلُماً جميلاً» للشاعر علي فيّاض

نبت كالشوكة في ” بدنايل ” وصار شجرة باسقة . تحرّر من قيود الله والعقل ، ينزل تمزيقاً بالمحرّم ويشيّع العصيان . يحترف الكذب ويتسلّح بالشعر والحنين الى المطلق .
” دايخ ومش سكران ” يصف الاحلام كما هي ويستخدم مختلف انواع الهزيان والهلوسة ويفيض بالعواطف .
في حديث مع كثير من الخمر عند صديقنا ” الياس غانم ” في جرود بلاد جبيل قال لي هامساً والدمعة في عينيه : لقد فشلت !
كلنا فشلنا يا صديقي !
” رامبو ” أهم شاعر بالعالم فشل . فشل بالنسبة الى المطلق . ولماذا لا يكون المطلق فاشلاً .
تطلّع إليّ بنظرة كانت كالحاجة التي لا توصف في الصداقة اللذيذة الى روح الآخر .
شاعر حقيقيّ ، يتألم ويصرخ . . و . . يخيب . لكنّه لا يستسلم ، لا يترهّل . أعرف بأنه يعبث به هواء الخوف وتتدحرج إلى جوانبه أوراق الغيظ والتعب والحزن ورغبة مهشمّة ، مصلوبة في الحياة . . . وبالشعر الرجاء .
رقيق تخنقه الوحشة ويجرحه الحنين . . من الحزن .
بطل بقاعيّ ، مأخوذ شعره من المتسكعين والعاملين في الحقول الغامرة بالخير والبركة .
بطل وصعلوك في آن . حرّ حتى الانتحار والجنون .
جاهليّ بدويّ فولكلوريّ خرافي هجّاء مدّاح .
جاء الى الحياة فتدبر أمره ، لم يقل له أحد أن يجيء ” إجا وعلق ” في الثمانين من عمر سريع يظل شاباً ، خارجاً عن المألوف ، متمرداً. صوفيّ التأمل والروح والحلم والتوحّد . يحب ويغني ويرقص و يهذي ويستشعر وهو يعيش الموت .
بدائيّ ماكر ، مصاب بحب الحياة . الفاحش والبريء الى العالم . مربوط به على شغف ، مبهور بشعلة تلتهمه كما لو كانت نار الجحيم . شعلة تجعله ينبض بشيء من الجنون .

إقرأ أيضاً: توقيع ديوان «وقع مني» للشاعر قصيّ شرارة

إنه خرافة ، ولا احتمال للحياة خارج الخرافة . ولا جمال للحياة خارج الخرافة ولا حياة خارج هذا الشيء القليل أو الكثير أو التام من الجنون الذي هو الشعر . إنه الشعر الذي يتجسّد في هذا المجنون إلى حدّ الروح . وكل شعر يضيء هو انتصار على الموت والحرب والوحشيّة والابادة الروحيّة والنفسيّة والجسديّة .
يبدو حب الشعر عملاً أحمق .
يبدو كذبة فهو مستحيل .
ونؤمن في هذا المستحيل .
إذ من يستطيع أن يحب ويستشعر ، وهو يعيش في الموت ؟! ذلك بالضبط هو الجنون ، ذلك بالضبط هو الرجاء ، ذلك بالضبط هو الخلاص . الخلاص من حقارة الواقع وعجز الحقيقة والخلاص من فكرة الموت . وهذا هو ما جعلنا الليلة نأتي إلى قلعة ” راشيّا ” لتكريمه ولنقول أن هناك أمل بعد .
طلال حيدر شكراً لك .

السابق
السيسي يثير جدلا بدعوته الشعب الفلسطيني للتعايش مع الشعب الاسرائيلي
التالي
ليكن شعارنا في عاشوراء: لا لامراء الطوائف والفساد