فجر الجرود: مشهد التجاذب بين منطق الدولة ومنطق الغلبة

قيل كلام كثير حول الوقائع الميدانية لمعركة فجر الجرود. ،وهي وقائع تبدو صغيرة أمام أهمية النتائج والأبعاد التي تنطوي عليها ، فهي برمزيتها تتخطى مسألة تحرير الارض، وضبط الحدود ،ومحاربة الأرهاب ، لتطل في هذه المرحلة على بعد محوري يتمثل في انفتاحها اذا احسن توظيفها ، على إعطاء دفع أساسي في مسار قيام الدولة واستعادة قرارها.

بداية لا بد من الإشارة إلى أن مجرد قيام الجيش اللبناني بتحريرارض لبنانية، من براثن المجموعات الإرهابية، هو من الناحية الموضوعية ،أولا وقبل كل شيء، فعل تأكيد لوطنية المواجهة مع الارهاب، وفعل تعريف متقدم للقضية الوطنية، يتجسد بانخراط الجيش اللبناني و من خلاله ومن موقعه الوطني بالذات ، في مواجهة الارهاب.

واذا تجاوزنا الو قائع وعدنا الى السياق السياسي الذي حصلت فيه معركة جرود القاع وراس بعلبك ، يمكن أن نتوقف أمام السيناريو التالي : ٩*٠ وأهدافه
منذ ما بعد معركة حلب، وصولا االى المعركة الصفقة في جرود عرسال اندرجت جملة من المواقف لا بتزاز البلد من قبل محور الممانعة، وبدأ الخطاب الممانع ضاغطا لتصوير المشهد السياسي بان المحور المذكور قد أنجز انتصارا في سوريا وصراع المنطقة، وليس من دون دلالات ان يتم التركيز وعلى نحو غير مسبوق ،على تظهير انتصارات حزب الله ومعه النظام السوري ، وان يترافق هذا المسلسل الدعائي ، مع دعوة لبنان الى الالتحاق بهذا المحور ، يتم ذلك مع ان اتجاهات تطور الصراعات الدولية والإقليمية ما زالت معقدة، والصورة مغايرة لما تدعيه الخطب والتصريحات الصادرة عن كل مكونات المحور الإيراني، ذلك أن الاتفاق الاميركي -الروسي والخطط الروسية لإقامة مناطق آمنة وأخرى “خفض التصعيد ” تقوم على محاصرة وجود مليشيات الحرس الثوري الايراني وحلفائها، وبالتالي فرض تحجيم شديد للنفوذالإيراني، كل ذلك مقرون بأن التسوية الشاملة في سوريا لم تنضج بعد، وخصوصا في ظل اقتراب موسكو أكثر من الموقع الوسط منه الى الموقع الذي اعتمدته بهدف تثبيت دورها كعراب للحل السياسي في سوريا ،خصوصا في أن هناك غير جهة مستعدة للتسليم لها بذلك، على غراراسرائيل ودول الخليج من أجل التضييق على إيران ولجم تمددها ونفوذه.

في اطار العوامل المشاراليهاأ لبد ان نتوقف أمام السلوك السياسي السياسي للمحور الإيراني في هذه المرحلةالذي تميز الاندفاعة متوالية الحلقات ، إذ ليس من دون دلالات، ان يتم التركيز على تظهير انتصارات حزب الله ومعه النظام السوري مقرونا بحملة تقودها إيران، لاستعجال التوظيف السياسي لمعركة جرود عرسال، وسيعها في هذه اللحظة السياسية لتعزيز اوراقها استباقا لمرحلة التسويات لاحقا .

في هذا السياق اتت زيارة مساعد وزير الخارجية الإيراني للشؤون العربية والإفريقية ، حسين جابري انصاري ، و من خلال توقيت الزيارة ، و حضوره، وكلامه ،واتساع مساحة لقاءاته التي شملت عددا كبيرا من المسؤولين والقوى السياسية ، سعى الى استباق انتهاء الجيش اللبناني، من تحرير جرود القاع وراس بعلبك ، وفي أعقاب المكاسب التي حققها حزب الله في جرود عرسال، وفي وقت يستشعر المحور الإيراني ، بأنه قلب الوضع رأسا على عقب في الساحة السورية، وأنه في وضع يسمح له بمحاصرة أعدائه، بعدما كان محاصرا طوال السنوات الست الماضية.

وفي السياق عينه اعلن نائب قائد الحرس الثوري الإيراني ” ان هدفنا من دعم حزب الله في لبنان هو ان يصبح مقاتلو الحزب بديلا عن الجيش اللبناني ، تحت مسمى الحشد الشعبي اللبناني .

واذا عدنا الى السياق السياسي الداخلي، الذي حصلت في ظله معركة فجر الجرود، فإن أول ما يمكن التوقف عنده ، أن هذه المعركة انطوت على أبعاد تشكل النقيض الوطني للمسار السياسي، الذي يسعى محور الممانعة الى دفع الوضع اللبناني اليه ،لا بل هي بمثابة مايشبه الاستدرراك ، وتعديل المسار السياسي الرسمي ،الذي كان يتجه قبلها، اكثر فاكثر ،صوب التسليم لحزب الله بمصادرة قرار الدولة اللبنانية، وتقديم التنازلات، واحدا اثر الاخر، خصوصا منذ التسوية التي جاءت بالعماد ميشال عون رئيسا للجمهورية ، وسعد الحريري رئيسا للوزراء.

إلى ذلك، فإن اي مراقب لمجريات عملية فجر الجرود، لا بد أن يلاحظ أن ثمة تركيزا قبل المعركة وخلالها ،برز بقوة غير مسبوقة، تهدف إلى الإيحاء بوجود تنسيق ثلاثي بين الجيش اللبناني وحزب الله والجيش السوري، لم تال قيادة الجيش جهدا في تكذيبه . لقد اعتبر حزب الله ان هذه المعركة تشكل فرصة ذهبية ، لتأكيد الثلاثية التي يصر على تأكيدها (الجيش ، و الشعب ، والمقاومة) ، ولتمريرها لا بد من تصوير ها، وكأنها حقائق ميدانية ، وهذا ما عكسه مسلسل المحاولات الدؤوبة من قبل حزب الله لتصوير المعركة على نحو يخدم أهدافه ، مثلما عكسه واقع التجاذب الحاصل،حول قيام الجيش بواجباته وحيدا ،مقابل التجاذب الحاصل حول حصول التنسيق ، عدا عن تكرار الإيحاء من قبل الحزب بالوصاية المضمرة على الجيش، عبر تصويره بأنه عاجز عن القيام بمهامه وحده ، او عبر ترداد القول بوضع إمكانات الحزب في تصرف الجيش ، من موقع الأقدر ، والأكثر خبرة ومراسا ، هذا عدا عن الإيحاء بمساعدته في بعض مراحل المعركة، وتقديم العون لإفراده الذين أصيبوا خلال المعركة ،وتعميمم عرض مشاهد عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وفق صور تشير إلى ذلك، فيما الجيش يعمل على تأكيد ان هذه الصور مزورة.

وواضح ان كل هذه المحاولات من قبل حزب الله تسعى جاهدة إلى توظيف معركة فجر الجرود، والبناء عليها ، في سياق ربط هذا الإنجاز بدور الحزب وإظهار انه شريك في هذا الانتصار، وصب الرصيد في حسابه .

وإلى ذلك كله ينطلق الحزب من اعتبار أن قيام الجيش وحده، ومن دون شريك ، من شأنه ان يعطل كل الحجج والذرائع التي ينطلق منها لتهميش دور الجيش اللبناني ومصادرة قرار الدولة اللبنانية ، لا بل ان إظهار الجيش يخوض معركة فعلية مقابل المعركة الصفقة التي جرت في جرود عرسال يساهم في تهميش دور الحزب.

الى هذه المعطيات بدا واضحا ان كل المواقف والضغوط من قبل محور الممانعة ، ترمي الى خلق وقائع على الأرض. تؤول إلى تجاوز التسوية الداخلية التي أنتجت انتخاب العماد ميشال عون رئيسا للجمهورية ، وسعد الحريري رئيسا للحكومة، هذه التسوية التي تشهد اليوم مطبات سياسية وتحديات متلاحقة ،مما يطرح جملة تساؤلات، عما إذا كان هذا السلوك السياسي ينطوي على احتمال وجود اقتناع لدى محور الممانعة، بان ظروف التسوية قد تبدلت ،مع التطورات الإقليمية والداخلية الجديدة ، وبالتالي انتفت مبررات استمرارها ، مما يجعل هذا الفريق يتخذ خطوات ذات سقوف سياسية عالية ، غير ابه بالنتائج ، ولو أدت إلى تفجير الحكومة.

اقرأ أيضاً: «فجر الجرود» في اليوم الثالث: سقوط مواقع داعش والجيش يستعد للحسم

وانطلاقا من هذه الوجهة ، اتت زيارة الوزراء الثلاثة الى دمشق ،مقرونة بطابع التحدي والتصريحات الاستفزازية لهؤلاء الوزراء، قبل عودتهم إلى لبنان وبعدما كادت ردود الفعل على الزيارة تهددالوضع الحكومي وتهزه في العمق ، هذا مع العلم ان المسألة برمتها ، لم يكن لها انعكاسات سياسية تطرح الوضع الحكومي جديا ، على بساط البحث ، خصوصا في وقت أتى موقف التيار الوطني الحر ، بخصوص زيارة الوزراء الثلاثة ، والتي حصرها في الجانب الفردي ، مما ساهم في رفع الغطاء الرسمي عن الصفة الرسمية للزيارة ، ووفر نوعا من الأمان المؤقت بالنسبة الى التسوية المذكورة .

في ظل هذه المعطيات ،وهذا المسار ، السؤال الذي يطرح نفسه ، ماذا بعد معركة فجر الجرود ، وهل تشكل هذه المعركة ،اذا احسن توظيفها ، محطة في تأسيس مسار سياسي ، يخرج الدولة من إطار وضعها المتعثر ، في ظل عجز كلي عن الاضطلاع بمقدرات البلد، وسياسته الخارجية والعسكرية ؟

الجواب الذي لا يرقى إليه الشك، ان العامل الأول الذي حدد إمكانية صنع هذا الانتصار، هو وجود القرار السياسي من عدمه ، وهو ما اكدته تجربتا جرود عرسال وفجر الجرود ، الاولى تتصل بتراجع الدولة امام اندفاع الحزب الى فرض اجندته في معركة جرود عرسال في ظل العجز عن تقديم اولوية اجندة الدولة اللبنانية ودور الجيش اللبناني على اجندة الحزب ، والثانية تتصل بالقرارالسياسي بتكليف الجيش بتطهير جرود القاع وراس بعلبك، وبالاستناد الى ما بدا الحاحا داخليا وخارجيا ، وما تبعه من تصريحات لرئيس الجمهورية ثم رئيس الحكومة ، ان الجيش سيحرر وحده الارض من الارهاب.

واذا كان تبيان المسار الذي يسلكه الوضع اللبناني ينتظر انتهاء الإنجا ز المتعلق بمعركة فجر الجرود، التي من شانها ان تساعد على تحديد الملامح السياسية للمرحلة المقبلة ،حيث تبدو هذه المعركة مفتوحة على أفق من اثنين :

الأول يتمثل في الاستمرار، كما جرت العادة ، في ضبط الصراع حول المسائل الخلافية ، تحت سقف التسوية السياسية المعهودة ، وإبقاء التوتر السياسي في حده الادنى ، انطلاقا من الحفاظ على معادلة المصالح القائمة لدى القوى النافذة في السلطة ،التي ستسعى الى تثمير معركة فجر الجرود داخليا مع اقتراب موعد الانتخابات النيابية.

اقرأ أيضاً: معركة «فجر الجرود»: اسلحة جديدة للجيش اللبناني ستفتك بداعش

اما الأفق الثاني ، فيبدو حول احتمال أن يترافق أنتها ءالمعركة مع انطلاق النسخة الجديدة من العقوبات الأميركية التي تستهدف حزب الله ، والتي يظهر جليا ، أن هناك سعيا أميركيا في استيلاد موقف موحد مع مجلس التعاون الخليجي، الذي يتبنى التوجه الاميركي . هذه العقوبات سوف تأتي في ظل ارتفاع وتيرة التصعيد السياسي والإعلامي حول السعي القائم لأن تشمل مفاعيل القرار ١٧٠١ الحدود الشمالية والشرقية مع سوريا .

من شان هذا السيناريو ان يشكل أحد التحديات الفعلية أمام الحكومة، و نوعا من اختبار مدى قدرتها، على تجاوز هذه العاصفة ومن شانها أن تستنفر ردودا من قبل الحزب ، واعتبار انها محاولة من محاولات تطويقه سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وبأنها مشروع حرب ضده ، لن تثنيه عندها عن قلب الطاولة بكل الوسائل .

واذا كان من المؤكد أن الانتصار، الذي سجله الجيش اللبناني ، في معركة فجر الجرود ، يشكل فرصة، و مفصلا مهما ، من شأنه ان يفتتح مسار استعادة قرار الدولة ، فان تحويل هذه المعركة الى مناسبة لتكريس واستكمال حلقات الهيمنة الفئوية ، وربط لبنان في صراعات المنطقة من البوابة الأ يرانية ، او الى محطة لتكريس معادلة المصالح القائمة ، بين القوى النافذة في السلطة، فهذا هو أقرب الطرق الى حقن الوضع اللبناني بمزيد من عوامل التعقيد ، وتغذية عناصر الاحتقان الطائفي والمذهبي، خصوصا في ظل اشتدادالرياح الدولية والإقليمية الساخنة.

السابق
مجموعات من حزب الله تفتش على دليل حول العسكريين المختطفين
التالي
«جمعة» غضب لبنانية