في وصف تظاهرة لبنانية: ستاتيكو مستمر منذ عقود

لم تتغير التظاهرات اللبنانية.. فمنذ عقود لازالت على حالها.. كل فريق في مكانه.. والجميع يعود الى موقعه، وقد أدى واجبه وارتاح ضميره..

منذ اكثر من ثلاثة عقود أسير في مسيرات مطلبية، أتحمس، أصرخ، أنادي. أتعب، أعود الى المنزل بانتظار التغيير الا ان كل شيء يبقى على ما كان. ورغم ذلك لم انقطع عن التعبير عن موقفي. انه عناد مبدئي قد يثمر يوما ما.

إقرأ أيضا: متظاهرون مقنعون ويساريون يلقون زجاجات المياه على الحريري

عند الحادية عشرة ما قبل الظهر، بدأ الفقراء المتألمون من الضرائب بالتوجه صوب ساحة رياض الصلح في وسط بيروت الراقي، ليس جميع المتألمين، بل ممن يمكنهم تحمّل بدل النقليات من أحيائهم البعيدة تلك، ورغم انعدام أية فرصة للتغيير على الأقل في المستقبل القريب، الا ان المعترضين على سياسة الحكومة لم يكونوا قلة ابدا.

ركبت “الفان” بألف ليرة فقط، وقصدت ساحة الشهداء، ومن هناك توجهت الى ساحة رياض الصلح، لأجد الكثيرين ممن سبقوني كبارا وصغارا ومن جميع الاعمار والاشكال، لدرجة اعتقدت معها ان كثرا بينهم هم من غير اللبنانيين.

دخلت المربع الاول أبحث عمن اعرف او عمن يشبهني، فلم أجد أحدا. وفي المربع الثاني إلتقيت بالزميلة مارلين خليفة التي تمثّل الصحفيين في معاناتهم من الفساد والظلم- رغم تجربتها الطويلة في الصحافة- ومعها زميلات ايضا، زميلات جميعهن من عالم الصحافة، المتدهور حاله نحو هاوية سحيقة.

ومن ثم الى المربع الثالث، الكثيف الحضور، والذي يجمع شبابا وصغارا وكبارا، يساريون، وقوميون بشعاراتهم، هؤلاء اليساريو الهوى يطلقون عبر مكبرات الصوت الصادحة اغاني مارسيل وجوليا وماجدة الرومي وغسان الرحباني. ففي كل مربع  نلحط مكبرات صوت، ومتطوع برفقة متطوعة، يصرخان  مداورة بأعلى صوتيهما، محركين الجمهور الذي بدا في احد المربعات هادئا، و(كلاس) جدا، لعلهم جماعة حزب الكتائب “النواعم” الذين لم يعتادوا المظاهرات المطلبية هذه، كحالنا نحن الفقراء ابناء اليسار الذين “تختخ” قلبهم وصوتهم من الشعارات.

في مربع اليسار كانت الحماسة على أشدّها، كونهم الوحيدين الذين لا يشاركون في حكومة الفساد هذه. وهم الوحيدون الذين يحق لهم ان يسمّوا أنفسهم معارضة.

لا اعلام حزبية في الاعتصام، فقط علم لبنان، واناشيد وطنية. وجبهتان: الاولى الجنوبية وتضم المعترضون على الضرائب، والجبهة الثانية الشمالية وتضم جماعة حماة السراي الحكومية والدرك.

تنطلق الاناشيد موّجهة (السبيكرات) نحو السراي، وتقف سيارات البث المباشر كحاجز بينهما، بين الجبهتين. تستمع الجبهة الشمالية لردح الجبهة الجنوبية بهدوء وطويلا، دون أي أي جواب، ولا إنتظار جواب حتى.

يحضر رئيس الحكومة، بفكره المدني، الذي يحاول فيه تقليد رؤساء الحكومات الاوروبية التي تحترم شعوبها، لكن مجموعة شبيّحة ظهرت فجأة، رمت الجبهة الشمالية وحرسها الرمادي، المزركش النيليّ، كأيامنا مع هذه السلطة الفاسدة.

فهؤلاء الشبيّحة هم الوحيدون الذين يقنّعّون وجوههم، وجميعهم شبانا صغار السن لا يتعدى عمر احدهم العشرين عاما. لباسهم شبيه بلباس بلطجية حيّ من احياء الضواحي الاميركية المُخيفة.

توجهوا نحو شارع المصارف، وتواجهوا مع فرق درك تحمي وجهها “بطاسات”، كأنهم على علم مسبق بقدومهم. على عكس الدرك الذي يحمون السراي في الجبهة الشمالية. من أين أتوا؟ وكيف نبتوا؟ وكيف اجتمعوا؟ لا أحد يدري.. فوضويون عكس جماعة الحراك، اثاروا خوف المعتصمين، لحق بهم البعض مع المصورين لالتقاط الحدث، والصليب الاحمر استباقا لأي حدث دمويّ.

لكنهم كانوا يمثلون علينا افتعال الفوضى والخلاف مع القوى الامنية بمحاولتهم ازالة الفاصل الحديدي. لعبوا الدور مرة، مرتين، ثلاث، لكن لم يكن متقنا جدا كما بدا للجميع. تركهم الصحفيون المصورون وعادوا، فهدأت معركتهم التمثيلية هذه وتفرقوا.

عاد جماعة الحراك الى الهتاف والحماسة، وانطلقت قناني المياه البلاستيكية الممتلئة، نحو الجبهة الشمالية، كرّ وفرّ جميلين وصراخ، وقناني مياه تتطاير في الجو، و”الستاتيكو” التظاهراتيّ يسير بهدوء معهود.

صعدت الشابة (ماغي بونصرالدين) سيارة المربع الثالث، ألقت كلمة مؤثرة حرّكت الجماهير، صفق لها الجميع، نزلت، عادت الى حيث كانت. اقترب (خليل الزين) ابن الـ18 عاما، الشاب الذي يدرس اختصاص الفندقية، في مهنية بئر حسن مني يسأل: “منذ شهر، ونحن خارج المعهد، هل سيمنحوننا إفادة ايضا هذا العام؟ قلت له بالطبع لا. فقال إذن متى سنعوض ما فاتنا من دروس؟. وفي دردشة مع (ريتا) التي تعمل في احد المراكز الاستقصائية، قالت: “ان احضر جميع الاعتصامات وكل مرة نرجع خائبين”.

لم يخرق هذا “الستاتيكو” سوى أمرين: حضور الحريري ومحاولة تقليده جو وعالم سياسيين غريببين عنا، و”مجموعة المقنّعين”. لم يحضر أيّ من السياسيين الآخرين سوى هؤلاء.

إقرأ أيضا: ليست ثورة ضدّ الحريري وإنما ضد الجوع والضرائب

اليسار، في مشهديته المعهودة، والسلطة في دورها المعروف. “ستاتيكو” لبناني مستمر منذ عقود..

وهكذا تسير الايام الى ما شاء الله.. وندفع الفواتير آخر الشهر بهمود تام.

السابق
التجدد تقترح على الرئيس الحريري ٥ نقاط فورية لمكافحة الفساد
التالي
الطائرات الاسرائيلية تقتل مسؤولا في الدفاع الجوي السوري