بعض التأمُّل في أُبُوّة «داعش»

جهاد الزين

لم يحظَ تصريح المرشح الأميركي-الصّرْعة (وليس المصروع) للانتخابات الرئاسية الأميركية دونالد ترامب عن أن المؤسسَيْن الحقيقيّيْن لـ”داعش” هما باراك أوباما وهيلاري كلينتون باهتمام كافٍ في الشرق الأوسط وحتى في أوروبا سوى بما لا يتخطّى كثيراً التغطية الإخبارية البارزة. بينما في الولايات المتحدة، ورغم تجاوزه في السجال الانتخابي، حظيَ ببعض التأملات الجادة في تعليقات صحافية، أعني من حيث التحليل لا مجرّد الخبر.

اقرأ أيضاً: الثقة وعدم الثقة بأردوغان

لم تلعب خفة ترامب هذه المرة أيضاً لصالح جدية المحتوى الجوهري لتصريحه هذا حول “داعش” و”مؤسِّسَيْها”! فهذا المرشّح الذي يتمنى معظم العالم، ولا سيما نحن المسلمين، عدم وصوله إلى سدة الرئاسة الأميركية، يضع يده على واحدة من أخطر القضايا التي واجهت العالم في حوالي الأربعين عاماً المنصرمة.
فبمعزل عن المبالغة الواضحة في تسمية أوباما وكلينتون كمؤسسَين لـ”داعش”، وهو ما عاد واعتبره ترامب نفسه مجرد سخرية، فإن ما يبقى، بل ما يَجُدُّ (من جدّية) من هذه التهمة هي المسؤولية التاريخية للسياسة الأميركية المعاصرة عن ولادة التيار الإسلامي الجهادي بصيغه السلفية والتكفيرية المختلفة والمتشابهة بل عن كل علاقة واشنطن بتيارات الإسلام السياسي الأيديولوجي السنية والشيعية المعاصرة التي أحدثت، خلافاً لما تّدّعي هذه التيارات، تغييراً في عقائد الدين الإسلامي.
الشائع المعروف هو أن الرئيس رونالد ريغان في تحويله الغزو السوفياتي لأفغانستان عام 1979 إلى فخ لموسكو، شجّع علناً بشكل كثيف وعبر حلفائه العرب والمسلمين الحركات الجهادية. ولا تُنسى صورة استقباله الشهير لقادتهم الأفغان في البيت الأبيض أوائل الثمانينات.
لكن، حسب النقاش الذي أثاره ترامب، فإن “المؤسس” لتيار الجهادية السلفية في الاستراتيجية الأميركية هي إدارة الرئيس جيمي كارتر كما ورد في مقابلة لمجلة “النوفيل أوبسرفاتور” الفرنسية مع مستشار جيمي كارتر للأمن القومي زبيغنيو بريجنسكي عام 1998، وفيها يعترف أن دعم كارتر للمجاهدين الأفغان بدأ قبل الغزو السوفياتي وأنه كان موجَّهاً ضد النظام الموالي لموسكو في كابول. ويقول بريجنسكي إنه كتب وقتها تقريراً للرئيس كارتر يتوقّع فيه أن يستجر هذا الدعم غزواً سوفياتياً لأفغانستان.
إلا أن اللحظة الأهم في المقابلة كانت عندما سألته المجلة هل أصبح في ما بعد نادماً على ذلك القرار بسبب ما أدى إليه من ظهور حركة “طالبان” الأكثر تطرفا ومعها القاعدة؟

الاكراد وداعش
أجاب بريجنسكي:”أندم على ماذا؟ … ماذا سيكون الأهم في التاريخ؟ ولادة حركة طالبان أم سقوط الاتحاد السوفياتي؟!”.
كانت عملية ممتازة. قال، مستخدما تعبير : لقد أوقَعْنا السوفيات في الفخ الأفغاني (حرفياً) وخلقنا لهم فييتنامَ(هم).
لكن نحن العرب لدينا أيضا سوابقنا في بث الروح في التيارات الإسلامية. فهناك المعطى الشهير في سبعينات القرن المنصرم في عهد الرئيس أنور السادات عندما بدأ سياسة تحالف أو تنشيط غير مباشر لحركة “الإخوان المسلمين” المصرية في وجه المعارضة الناصرية واليسارية لحكمه بعد دخوله في خط الحل السلمي مع إسرائيل. ولماذ لا يكون ذلك بتشجيع من الإدارة الأميركية في عهد هنري كيسنجر؟
إذاً هنا وقياساً بالموضوع الذي أثاره دونالد ترامب:
“أُبُوّةُ” أو تأسيس التيار التكفيري مسألة ليست صالحة لكي تُنسَب إلى رئيس أميركي واحد أو وزير خارجية أميركي واحد لأنها سمة تاريخية للاستراتيجية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط بدأت منذ ورثت واشنطن عن بريطانيا البعد الإسلاموي في السياسة العربية وظهر خلال المواجهة الكبرى بين الملك الفيصل والرئيس عبد الناصر في الستينات. وبهذا المعنى فإن سياسة تشجيع ضمني لـ”داعش” لم تكن مستبعدة عن الأميركيين منذ بدأت الأحداث في سوريا وخصوصا خلال العام 2014. التهمة على تركيا ثابتة سابقاً رغم الأثمان الغالية التي بدأت ترتد لاحقاً واليوم على الشعب التركي من هذا التنظيم. بل على أمكنة كثيرة في العالم من ضمنها أميركا وأوروبا.
إذن ترامب لم يخطِئ في الأساس حول نقطة “داعش” وإنما في تشخيص الموضوع ضد خصميه باراك أوباما، أحد أفضل الرؤساء الأميركيين ذكاءً وتغييراً، وهيلاري كلينتون المرأة “المقاتلة” الاستثنائية في التاريخ السياسي الأميركي.
ما يمكن قوله هنا إن “داعش” الذي شارف على نهايته على الأرجح لم يكن ليستمر من دون أن يخدم أهدافاً عديدة آخذة الآن بالاستنفاد.
نحن هنا وبما يتخطّى دونالد ترامب وعنصريته وخفّته أمام مفارقة:
الإسلام السياسي المعتدل والسلفي كان دائماً حليفاً للغرب في العصور الحديثة ما بعد الحرب العالمية الأولى.
أما الإسلام التكفيري الذي يكمل تدمير بلادنا وشعوبنا فقد دخل مرحلة جديدة كسرطان أمني هي تهديد مجتمعات الغرب.
هذا يكفي لنتوقع قرب نهايته السياسية.

(النهار)

السابق
المشنوق: الاستمرار في لعبة الفراغ السياسي جريمة في حق الوطن
التالي
لن يغيّروا حرفاً من كتاب الأسد