«خِرْيو… و قرِيع»

رغم المنافسة الشديدة بين جارين كان يملك كلّ منهما دكاناً صغيراً فإنّ ذلك الصراع التجاري إقتصر على إطلاق الأوّل على الثاني لقب "خِرْيو" والثاني على الأول لقب "قرَيع".

هِهْ… “فَتَحْ خِريو” كان يقول الأوّل عندما يهمّ الآخر بفتح باب دكانه. أمّا الثاني وعندما يرى جاره يتهيأ صباحاً للدخول الى دكانه المجاور فقد كان يتمتم بصوت مسموع: “هِهْ، هيدا القرِيع رح يفتح “.!

تفوّق الثاني على جاره بموضوع إجادته الذبح وبيع اللحم في نهاية كلّ أسبوع وخلال الأعياد. فقد كانت جرجوع حينها لا تستهلك في الأسبوع – وما زالت الى اليوم – أكثر من ذبيحة صغيرة، كان يعلقها أمام الباب، حيث كانت تتجمّع كلّ زراقط القرية وذبابها. أمّا الآخر فلم يجد من وسيلة لزيادة البيع في دكّانه سوى إعطاء الناس ما يحتاجونه من سلع غذائية بالدّيْن، حتى تحوّل دفتره الى مثلٍ في قريتنا. كان، كما أذكر، دفتراً ضخماً يضعه على الطاولة أمامه مع قلم “بيك” أزرق بجوار نرجيلته الدائمة الكركرة.

إقرأ أيضاً: يوميات معتقل 3: عن جعفر البطل.. حتى داخل المعتقل

من المؤكد بأن لقب “قرِيع” كان من أثر صلعته الشهيرة، وإن كان يغطّيها بطربوش عتيق. كان، وعندما يلمح أحد المارّين من الذين لهم مكانةً مميزةً في دفتر الدّيون – أي من المطنّشين -، يتعّمد الصراخ من على كرسيه في الداخل: ” يا موفي الدّين، يا الله “، وخصوصاً عندما يكون ذلك الشخص قد قصد دكان جاره لشراء بعض من اللحمة وتسديد ثمنها.

حدة المنافسة جعلته يفكّر بجلب وبيع منتجات لم تعرفها القرية من قبل، حيث وضع على الطاولة أمامه أكياساً من النعّومة، وهي عبارة عن طحين حبوب الحمّص المخلوط بالسكّر الناعم، والى جانبها علبة السّحبة، حتّى تحوّلت دكانه الى مقصد جميع الأطفال. هو كان يصرّ بأنّ سحبته “ما فيها ولا رقم بوش”، أي أنّ تحت كلّ رقم ثمة هديّة. ومع أنّ الأمر لم يكن كذلك، حيث كان يضع تحت كلّ رقم من أرقام سحبته مقدار نصف ملعقة صغيرة من النعّومة ملفوفة بورقة بيضاء، وذلك في حالتَي وجود هدية تحته أو عدمها.

أمّا جاره الآخر – اللحام – فقد بدأ منافسته بحبات ” الباڤكا “، وهي عبارة عن قطع من ” البونبون ” الملفوفة بورقة صفراء عليها رسمة لرأس بقرة سوداء، وكذلك بكونه كان يملك هاتفاً عمومياً في دكّانه، يستخدمه الراغبون بالإتصال بذويهم في بيروت.

كان صاحب دكان اللحمة والباڤكا والزراقط يعشق كلّ ما يمتّ الى الدولة بصلة. كان يردِّد على مسمع الجميع: ” راجعة ” – وكان يقصد الدّولة طبعاً -، حتى خلال معاركه مع الزراقط التي كانت تلتهم قرابَة ثلث لحومه المعلّقة كان يردِّد ” راجعة “… أمّا جاره فقد صار يلفظ ” يا موفي الدّين، يا الله ” عشرات المرات كلّ نهار.

إقرأ أيضاً: مبدعتان من بلدة «جرجوع» الجنوبية فازتا بالجائزة الفرنسية للقصة القصيرة

بين ال ” راجعة ” و ” يا موفي الدّين، يا الله ” عشرة أمتار لا أكثر. بينهما تفصل شجرة توت مثمرة لحقت بهما الى عالم المقابر… كانوا أصدقاء رغم تلك المزاحمة والمنافسة، ورغم عشرات السنين من محاولة جذب الزبائن لم يتعدّى الصراع حدود ” فَتَح خِرْيو ” و ” فَتَح القريع ” مع ابتسامة قروية ملؤها البراءة والبساطة…

كان منزلهما متجاوران، وكلاهما لا يبعد عن مقبرة البلدة أكثر من ثلاثماية من الأمتار… ربما نواصي القبور المنتصبة في الجهة المقابلة جعلتهما، كما يجب أن تجعل الجميع، يتوقفان عند حدود إسمها القناعة، والتي هي، وعلى العكس من كلّ شيء، لا تفنى!

إقرأ أيضاً: عن محمد قبيسي وآخرين.. متى تتراجع ثقافة الموت لتتقدم ثقافة الحياة؟

السابق
رسالة من سعد الحريري الى سليمان فرنجية
التالي
صورة جديدة لشقيق أحلام «بالمكياج» تثير السخرية!