إسحبوهم من بيوتهم

محمد علي مقلد

ليست دعوة إلى الثورة بل إلى عقلنتها. والعبارة قالها نبيه بري” لولا الوضع الطائفي في البلاد لكانوا سحبونا من بيوتنا”. هي حقاً لقطة ذكية وعلى المنتفضين في الربيع اللبناني أن يسترشدوا بها ليصوغوا برنامجهم، ويرسموا خريطة طريقهم.
تنطوي العبارة على حقيقتين دامغتين، الأولى أن أهل النظام يتحصنون بالطوائف ويضرمون النار بالمشاعر الطائفية ليحفروا تحت أسس النظام البرلماني الديمقراطي ويهدموه، والثانية أن حجم فسادهم وفضائحم صار يبرر للجمهور غضبه و سحبه إياهم من بيوتهم.
غير أن الجمهور يحدس هاتين الحقيقتين حدساً ولا يدركهما يقيناً، ولذلك يفجر غضبه، في كل مرة، خبط عشواء. عبارة نبيه بري تصوب لهم بوصلة سبق أن صوبوها قبل الآن مرات عديدة في الاتجاه الغلط.
عام 2011 مشى العلمانيون تحت المطر والمظلات مطالبين بقيام الدولة المدنية. صادقون في حدسهم ومخطئون في تصويبهم. لذلك اندس معهم في التظاهرات أتباع أهل النظام وزبائنه وحماة الفساد وصناع الفضائح. تعب المتظاهرون وتفرقوا، وحمّلت المجموعات المتظاهرة بعضها بعضاً فشل نضالهم الصادق والشجاع.
في عامي 2013 و2014 جمعت هيئة التنسيق النقابية أكثر من مئة ألف متظاهر تحت سقف المطالب الاجتماعية. التصويب الخاطئ كان كفيلاً بتفريق تلك الحشود، بعد أن صوّب النظام وأهله وأتباعه ونقابيوه المدجنون على رئيس الهيئة وعاقبوه على تجرؤه، وطردوه من فريق الهجوم، ووضعوه على مقاعد الاحتياط. البارحة لم تتمكن هيئة التنسيق من أن تجمع، في مؤتمرها، أكثر من مئتي شخص، والمدعوون للحضور عشرات الآلاف.

محمد علي مقلد
وفي عامي 2013 و2014 أطلق اقتصاديو لبنان صرختين مدويتين تنبهان إلى المخاطر الاقتصادية المحدقة بالوطن إذا ما استمر أهل النظام في حال المناكفة والمحاصصة والتخريب الممنهج للدولة والنظام الديمقراطي. صرختان في واد من غير صدى.
في كل هذه المناسبات كنا نشارك من موقع النقد الإيجابي للتصويب على الهدف الصح. طالبنا اقتصاديي لبنان بأن يغادروا إحجامهم عن العمل السياسي ، وأن يقتحموا ساحته من دون واسطة، لأن من أوكلوا إليهم هذه المهمة من السياسيين، لم يكونوا مرة أمينين لا على مال الرأسماليين ولا على المال العام، بل كل همهم ، كالمافيات الموصوفة في كل الطغم السياسية ، أن يتقاسموا من خارج القانون، هم وحاشياتهم وأتباعهم ومحازبوهم، الثروة الوطنية المالية والبشرية بالمحاصصة، باسم الطوائف لا بين الطوائف (ثلاث مقالات في جريدة المدن: اقتصاديو لبنان جبناء، بين التاجر والفاجر، ربيع برلماني لبناني).
وقلنا للعلمانيين إن “الزواج المدني لا ينجب إصلاحاً” سياسياً، وأن أهل النظام يستقوون “بالمؤسسات الأهلية على المجتمع المدني”، وأن فضائح الطغمة الحاكمة هي جزء من ” علامات ظهور الربيع اللبناني”. وكتبنا “كلاماً صريحاً مع النقابيين” حذرناهم فيه من مكائد السياسيين ومن الدخول في اصطفافاتهم التحاصصية.
الغضب اليوم كالغضب البارحة. غضب صادق من شعب اكتوى بنار الفساد والحرب الأهلية وفضائح أهل السياسة. شعب يصرخ في وجه الناهبين ومنتهكي القانون والدستور، في وجه الذين يزوّرون الإرادة الشعبية ويمددون للأزمة ولفشلهم المتكرر، في وجه نواب لا يعرفون من التشريع أحرفه الأولى، ووزراء ما أن اغتصبوا النفوذ حتى امتلأت جيوبهم بالمال الحرام. لكن، لا يجوز أن ينتهي غضب اليوم بمثل ما انتهى إليه غضب البارحة أو قبل عام أو أعوام.
الربيع اللبناني بدأ قبل عشر سنوات. 14آذار أوقفت ثورة الشعب اللبناني في منتصف الطريق ووظفت انتفاضته لتأبيد سيطرة أحزابها وتوريث أبنائها، و8 آذار حوّلت الغضب الشعبي لتمجيد عهد الوصاية والدوس على تضحيات بذلها اللبنانيون، بمن فيهم جماعة 8 آذار، ليتخلصوا من كل الجيوش الأجنبية العدوة والصديقة والشقيقة، والتعامي عن الدروس المستفادة من الحرب الأهلية، وعلى رأسها صون الوحدة الوطنية وتجاوز الانقسامات الطائفية والمذهبية.
كل شيء في لبنان يدعو إلى الثورة. لكن ضد من ومن أجل ماذا؟ لم يعد جائزاً أن يتحول الغضب، كما في كل مرة، إلى خيبة وانكفاء. علينا أن نستكمل الثورة حتى آخرها، ضد كل أطراف النظام، على جانبي الاصطفاف الآذاري، أن نستبعد من سلوكنا وشعاراتنا كل ما يبدو أنه تحييد لهذا الطرف أو ذاك، أو ما يمكن تفسيره أنه انتصار لهذا الطرف أو ذاك، أو ما يمكن توظيفه لصالح هذا الطرف أو ذاك.
” العيب ليس في الأشخاص، على علات بعضهم، بل في نظام يبرئ المجرم ويحمي الفاسد ويشرع للسرقة ويعاقب المشتكي ويسجن البريء ويحرر المدان ويستر على المتهم. العلة في نظام تنطبق عليه كل مواصفات المافيا”. للدقة، العلة هي في نظام لا يطبق النظام، في أهل النظام الذين ينتهكون الدستور والقوانين، في وزراء يتظاهرون ضد الحكومة، في نواب ووزراء يمتنعون عن القيام بواجباتهم ويستمرون بقبض رواتبهم، يمددون لأنفسهم بدل أن يتنحى الفاشلون منهم و يستقيلوا، وبدل أن يصرف الفاسدون منهم أو يقالوا.
إثنان يتحصن خلفهما الفاسدون، الطوائف أي أهلنا، والمؤسسات الدستورية أي الدولة، دولتنا.على الانتفاضة أن تجتاز الممر الضيق بمهارة. بين حماية الطوائف من المحاصصين باسمها والقضاء على الطائفية؛ بين الدفاع عن النظام البرلماني الديمقراطي والقضاء على نظام المافيا؛ بين الدفاع عن الشرعية الدستورية والتخلص من رموز الفساد المتحصنين بالشرعية ومؤسساتها. أن تتصرف كطبيب ينتزع الشوكة من العين من غير أن يؤذي العين. ألا ترفع أي شعار يمس المؤسسات الدستورية ، الحكومة والمجلس النيابي ورئاسة الجمهورية، لأن في ذلك خطراً على الوطن و الدولة والجمهورية وعلى الانتفاضة.
سياسيو لبنان الفاسدون هم الشوكة والمؤسسات الدستورية هي العين. هذا هو معنى كلام نبيه بري. إسحبوهم من بيوتهم ولا تؤذوا المؤسسات. الشعب يريد تطبيق النظام. الشعب يريد حماية المؤسسات الدستورية.

(المدن)

السابق
باسم يوسف يؤيّد عصمت وتمارا بالردّ على التعليقات المصرية السخيفة بحق اللبنانيات
التالي
انهيار «هدنة الزبداني الثانية» يكشف الاصرار الايراني على التطهير المذهبي