عندما يغدو رمضان ذاكرة الماضي المغدور به

يعود للمرة الخامسة على التوالي، ليجد الحال على حاله بل وأسوأ، هذا الشهر المقدس الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس، ليجد من أنزل عليهم رحمة لهم، شاهرين كل أنواع الحقد والكراهية، في وجه بعضهم البعض، حاملين الضغينة بكف وكفنهم بالكف الآخر، ولغة القتل والدم لسان حالهم، فالموت أصبح الفكرة الرائجة وما بقي للحياة سوى الترحم عليها.

تشتت الدعاء بدل توحيده في رمضان
قبل أربعة أعوام بالضبط كان الدعاء موحدًا بين أبناء الأمة في الشهر الذي تتوحد فيه القلوب على الإيمان، فكان موجها للقضية الأولى للعرب والمسلمين، داعين الله أن يحمي أولى القبلتين وأن ترجع الأرض إلى أصحابها، والوطن إلى أبنائه، وأن يوحد كلمتهم وصفهم، ويسدد خطاهم، ويشد أزر مجاهديها، واليوم تتشعب الأدعية في قلب كل مسجد، وتتمدد في نفوس الصائمين والمصلين، وتتعمق في روح القائمين القانتين، بين طائفة وأخرى، مذهب وآخر، وبين حزب سياسي وآخر، لتشمل كل أبناء الوطن العربي الذي مسته ريح خفيفة أو قوية للربيع العربي –إن مازال يجوز تسميته بالربيع وليس فصلا آخر – فالصورة الوحيدة والمعبرة عن حال القطر العربي اليوم، لا تقل مأساوية عن صور المجازر التي كنا قد رأيناها آنفا في قانا ودير ياسين، ولكن هذه المرة القاتل عربي والمقتول كذلك.

تحول العالم العربي والإسلامي على وجه الخصوص إلى حمام دمٍ كبير، وتشتت العرب بدل فرضية لم شملهم

أربعة أعوامٍ والمشهد العربي في كامل القطر يتكرر باختلاف الأمكنة، وبتعويض المقتول بشخص آخر، والقاتل نفسه، الدم هو اللون الواحد للوحة، لغة البطش، التعذيب والقتل وحدها التي يعلو صوتها، الدمار والموت التحصيل الحاصل لكل ما يحدث، أما الخاسر الوحيد هو المواطن الذي فقد أفراد عائلته، بيته، ووطنه وأضحى من مواطن يطالب بحق وطنه، إلى نازح، مهاجر أو لاجئ يطالب المنظمات العالمية لحقوق الإنسان بحقوقه كلاجئ!

المواطن العربي في رمضان بين مطرقة ارتفاع الأسعار وسنديان المشهد الدموي
المواطن العربي المسلم الذي كان همه مع مقربة كل رمضان منصبا على ارتفاع أسعار المواد الغذائية، والمواد الأكثر استهلاكا، وكيف يلوذ بطنه بما لذ وطاب من قطايف، بقلاوة، قمر الدين، عرق سوس، وقعدات الشاي والمكسرات، الحلويات، المحاشي، والتجمعات والسهرات، والعزومات، وأين سيقضي سهريته وعائلته، وكيف يزين بيته ابتهاجا بحلوله، وأين سيصلي صلاة التراويح، وما إذا كانت ميزانيته تسمح بعمرة في العشر الأواخر لرمضان، وكم من ختمة قرآنية سيسمح له وقته بقراءتها، وكم عائلة يستطيع التصدق عليها، وهل سينال المغفرة والعتق من النار في هذا الشهر الذي أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، صار تفكيره موجها كيف يفر هربا من نار الحياة والموت يطوقه من كل مكان، سواءً كمتواجد مباشر في الحدث أو متتبع للأحداث بحرقة، بعدما ضاع الأمن والأمان، وفُقِد الاستقرار والهدوء، بين الأحزاب الحاكمة، والأحزاب المعارضة والتدخلات الخارجية.
الواقف على المشهد العربي يعرف جليا أن الأعين كانت متجهة نحو فلسطين والعدو العربي، ونحو العراق الذي أنهكته الحروب الداخلية والطائفية والتدخلات الخارجية، ولبنان بما خلفته الحروب الأهلية والطائفية كذلك، وما زاد الطينة بلة هو تدخل حزب الله مع النظام الأسدي أين بات يفقد شبابه الواحد تلو الآخر وأصبحت المناطق اللبنانية التي تشهد دعما كبيرا للحزب ذات أجواء يسودها الحزن والسوداوية وفكرة الموت الأكثر رواجا وتناولا، فكيف يمر رمضان على أهالي المفقودين، وأي مائدة ستنقص حجم فجيعتهم؟، الصورة اليوم تستطيل لتصل إلى اليمن ليس فقط إثر النزاع الداخلي بين الرغبة في الانقسام وإنما من التدخل الخارجي مؤخرا تحت ما يعرف بعاصفة الحزم، مرورا إلى الأزمة السورية المسيطرة على المشهد، بين البطش، التعذيب والقتل وتداعياتها على المنطقة، لتمر بمصر أين تعيش اليوم أسوأ مراحلها خاصة مع أحكام الإعدام التي قضت بها المحكمة المصرية منذ أيام، فأي رمضان سيمر على كل عائلة من العوائل المعنية، وأي فوانيس سيعلقون على حزنهم؟، وتحط رحالها في ليبيا التي تعرف أوضاعا داخلية كارثية سقط فيها الأمن والسلام وسيطر الخوف على الشعب، وبوصولها إلى تونس يمكننا أن نتنفس الصعداء قليلا فرغم ما حدث يبقى الوضع التونسي الداخلي أكثر استقرار مقارنة بدول الربيع.

تداعيات الأزمة العربية على الدراما الرمضانية
لا بيت من البيوت العربية المسلمة في الداخل أو في ديار الهجرة يستطيع أن يفوت البرنامج الرمضاني للأقنية العربية، هذا الفضاء الذي يعود له المشاهد العربي بقوة وإن غاب عنه عاما كاملا، وكله عطش لما سيبث، فهو يعد السفرة الغنية بالأطباق بين المسلسلات، والبرامج، والحفلات، ولا يمر هذا الشهر الفضيل إلا ويعود ليجمع العائلة الصغيرة والكبيرة حول مادة إعلامية واحدة رغم اختلاف الذائقة والتوجه، وبالرغم من أنه زمن الانترنت، إلا أن للشاشة الصغيرة نكهة رمضانية مميزة.
تداعيات المشهد السياسي تعود مرة أخرى على هذا، فالمتابع للحراك الدرامي في السنوات الأخيرة، يشهد أن الدراما السورية كانت الأكثر استقطابا للمشاهد العربي، بمختلف ما تقدمه، وبعد الأزمة التي تعيشها تراجع الإنتاج السوري التابع للتلفزيون السوري والحر، حتى أن الدراما انقسمت إلى الممثلين المؤيدين للنظام، والمعارضين له، وانقسمت الأعمال كذلك إلى “عمل مؤيد وآخر معارض”، وفقدت الدراما طعمها اللذيذ، إذ طغى عليها كذلك التسييس والتقتيل، واتجهت الأعمال بصفة عامة إلى الدراما المشتركة بين الفانين العرب من مصر، سوريا، لبنان، الخليج العربي والمغرب العربي الكبير، وذلك ما أكدته الكاتبة السيناريست السورية ريم حنّا قائلة أن الأجواء حرضت جدا على الأمر، لا ننسى كذلك أن الأعمال العربية في الفترة الأخيرة تتناول موضوع الثورات فالدراما تعد المرآة العاكسة لصورة المجتمع والشعب.

أربعة أعوامٍ والمشهد العربي في كامل القطر يتكرر باختلاف الأمكنة، وبتعويض المقتول بشخص آخر، الدم هو اللون الواحد للوحة

مواجع الذاكرة الرمضانية، واللاجئون المتوجع الوحيد
رمضان الذي كان فرصة للتوبة والرجوع إلى الله، وإعادة التجمع حول سفرة واحدة، سفرة متشبعة بالحب والأمان، أصبح اليوم فرصة جيدة لتقليب المواجع على اللاجئين خاصة منهم العراقيين الذين تم تهجيرهم من طرف “داعش“، واللاجئين السوريين الذين دخلوا مختلف مناطق العربية والغربية، باحثين على حلم الحياة هروبا من كابوس الموت، الذي سلطه النظام البطشي وحلفائه في المنطقة مرة، والتنظيمات الإرهابية مرة أخرى، وتزعزعت به المقومات البسيطة للعيش، لم يعد إلا فصلا سنويا ممتازا لاسترجاع مواويل الذاكرة الشامية، بين الأزقة القديمة، ورائحة الياسمين، والموائد الرمضانية الحميمة وسط الدار، والأكلات والموشحات، الابتهالات والصلوات، التجمعات والنكات، فالحالة المفجعة التي يعيشها اللاجئون السوريون ستكون أكثر وجعا وحزنا، في شهر من المفروض أنه سمي شهر الرحمة.

الحرب السورية

لم تتغير الصورة الرمضانية بما تحمله من رمضان 2011 إلى 2015، بل تطورت إلى أفظع، ولم تتحسن بل ساءت أكثر من المتوقع، ومن محاولة العربي المسلم إلى تحسين صورة الإسلام في الغرب والقضاء على “الإسلاموفوبيا” لتظهر الثورات العربية التي بدأت بمحاولة الشعوب القضاء على الدكتاتوريات الحاكمة، ولكن الواقع قضى دون ذلك ليتحول العالم العربي والإسلامي على وجه الخصوص إلى حمام دمٍ كبير، وتشتت العرب بدل فرضية لم شملهم، وأصبحت المناسبات الدينية من رمضان وأعياد، يوما كباقي الأيام في السنة، وإن كان الشعور الواحد المتغير فيها هو زيادة كمية إفراز الحزن والوجع، بتحرك طفيف في الذاكرة التي لطالما اجتمعت بها صور الفرح والسعادة، والحميمية في هكذا مناسبات، وقد غدت ذاكرة الماضي المغدور به.

السابق
علماء صور : لتسليح الجيش في مواجهة الارهاب
التالي
جريج : على سلام ممارسة صلاحياته وفقا للدستور