دفاتر الحرب: مع الحزب الشيوعي اللبناني تحت سقف واحد

قبل اندلاع الجولة الأولى من الحرب، كنا أكثر فلسطينيةً: المنظمات الفلسطينية المسلحة كانت تؤنسنا، وتدغدغ أحلامنا السياسية. كانت قريبة إلى قلوبنا، تصنع موقفنا وتؤكد على عقيدتنا. عكس الحزب الشيوعي اللبناني، الذي وافق، خلف الاتحاد السوفياتي، على تأسيس دولة اسرائيل، والذي غمْغم طوال الأعوام الاخيرة: يدعم، أو لا يدعم الفلسطينيين في كفاحهم المسلح… وهذه نقطة نأخذها عليه، ونرددها ببداهة، لم تغيرها «لحلحة» الحزب عشية الحرب وتشكيله لمجموعاته «لحلحة»، وتلقّي أعضاء منه دورات تدريبية عسكرية في موسكو.

مع اننا في العامين الأخيرين كنا نتحالف مع الحزب في انتخابات الاتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية؛ نؤلف اللوائح المشتركة، ننسق في صناديق الاقتراع، نتفق معهم على جداول أعمال مؤتمراتنا، وعلى المطالب الطلابية الخاصة بكل كلية بعينها، ننسق هجماتنا وسجالاتنا ضد اليمين… كل هذا صحيح. ولكننا كنا نصف الحزب بالـ»تحريفي»، الذي انزاح عن الخط البلشفي القويم، وصار تابعاً للكرملين، عبر ذاك التنظيم الدولي الشيوعي، المسمى «الكومنترن». أما نحن، في «منظمة العمل الشيوعي»، النظفاء، الأوفياء لمثل البلاشفة الأوائل، المتمسّكون بالطهارة الشيوعية الأولى… نحن غير كل ذلك: نحن جذريون في مواقفنا: مع فلسطين حتى تحرير كامل ترابها، ضد النظام الطائفي الرأسمالي، حتى اسقاطه من أساسه؛ ولسنا مثل اولئك الشيوعيين الذين سرّبوا في صفوفهم فكرة «إصلاح» النظام الطائفي، ليشتركوا في الانتخابات النيابية! كنا ننظر اليهم بنوع من التعالي الأخلاقي السياسي. ولكن ليس هذا وحسب. فنحن، حديثو العهد في الحياة الحزبية، انتشرنا مثل البرق وسط الطلاب الثانويين والجامعيين، فيما هم الكسولون، الذين تأسسوا قبل نشأة لبنان، فأطرهم ضيقة ومغلقة، باهتة وثقيلة، تعوزها روح الشباب، والكثير الكثير من الثقافة. عندما كنا نقارن بيننا وبينهم، بين رفاقنا ورفاقهم، كنا نجد الفرق بسهولة نقاط تفوقنا عليهم: فقدرتنا على قراءة سولجنتسين واسحق دويتشر وولهام رايخ…. وجميعهم يضعون اصبعا على النظام الشيوعي الستاليني، القامع، التراتبي، الجامد… هذه القدرة كانت تضعنا في مرتبة أعلى. والشيء الغريب في هذا التعالي، ليس وهميته وحسب، إنما أيضاً تلازمه مع ميلنا، الأكثر ثورية، الأكثر تأكيداً على المساواة، من بين الميول الرائجة وقتها.

تلك الأوهام تتبدد عندما نسكن مع الحزب في ذاك المركز، في الشياح، على أساس أننا أصبحنا أقرب الى بعضنا، نتيجة الهجمة اليمينية الشرسة، وصار التنسيق بين حزبَينا من الضرورات الجوهرية. فإذا كنا نستطيع أن نبني تحالفاً مع كل الأحزاب الوطنية الأخرى، ومع شخصياتها «الإسلامية»، فالأحرى بنا أن ننسّق مع أقرب المقربين إلينا، حاملي صفتنا السياسية ذاتها. هذا ما يفهمنا إياه مسؤول خليتنا الرفيق أشرف، مردفاً بأنه من الآن فصاعداً، علينا الأخذ بكل المهام المشتركة بيننا وبين الحزب الشيوعي على محمل التكليف الحزبي، وأن نتعايش مع الذين تحولوا إلى «رفاق الحزب»؛ وذلك بقرار حزبي على أعلى المستويات، بالتأكيد.

هنا، في هذا المركز الحزبي في الشياح، تنقلب نظرتنا للحزب. صحيح اننا كنا نتمتع بدرجة عالية من الحرية، نحن أعضاء المنظمة، نبادر بفضلها بأفكار جديدة دائماً، مستحيلة، صعبة للتطبيق. وهذه حرية تخفِّفنا من ذواتنا الحزبية، وتبدو للعيون البعيدة كأنها طيش، أو رعونة، أو قلة التزام… مما كنا نسمعه من حولنا. و»خفتنا» هذه، يدعمها استعداد دائم للضحك، التحريض عليه، الاحتفاء به. والضحك سليل المبادرات الفردية، والوقائع الغريبة التي تخلقها. انه عكس الجدية، عكس الخطوات المدروسة والموزونة والمقرَّرة، التي لا تترك ولا ثغرة واحدة، ولا دقيقة واحدة لدهشة المبادرات.

ثلاثة رفاق من الحزب الشيوعي في مركز الشياح، قلبوا صورتهم السابقة عندنا: الرفيق رزق، ذو الشارب الكثيف، بلغ من العمر عتيّاً بالنسبة لنا نحن أبناء اوائل العشرينات، لا يسكن معنا في المركز. يحضر في الصباح الباكر بسيارته الفيات النظيفة، يدخل إلى «مكتبه»، حيث يجتمع بقادة المركز من الحزب، في الغرفة المجاورة لـ»مكتبنا». والأرجح انه، في هذا الاجتماع، يوزع بدقة المهام على الرفاق، من أصغرهم حتى أكبرهم، يشرب فنجان الشاي سكر زيادة، ويختلي ساعة، لقراءة الصحف. بعد ذلك، يخرج إلى باحة المركز، يجول في الغرف المختلفة، يراقب تنفيذ المهام، ينتبه الى النظافة، ثم يخرج، ليعود إلى الغذاء، يتقاسم مع الرفاق طعامهم، الذي يبدو مقبولا اكثر مما نطبخ نحن، ويتكلم مع جمع الرفاق هؤلاء حول آخر المستجدات، وآخر ما قاله زعيمهم، وآخر المواقف والتحليلات. الرفيق رزق بئر لا ينبض من ذاك الكلام الذي نعشقه، عن العلاقة الوطيدة بين اليمين اللبناني والطغمة المالية والإمبريالية العالمية. ألتقي به أحياناً في تلك الاحتفالات «المشتركة». أريد أن أعرف أكثر عن الرفيق رزق، أتردّد، أقاوم فضولي. ليس في منظمتنا من يشبهه بصرامته الإنسانية وانضباطه، ودسامة الأخبار والتحليلات التي بحوزته، دائماً. لكنني في النهاية اقترب منه واحاول التنصت الى كلامه، فيغلبني فضولي نهائياً. الرفيق رزق ليس كما نصوره، في منظمتنا: ليس كما نصور التحريفيين الجهلاء. في خلفية كلامه، ثقافة هائلة، لا يفصح عنها، لا ينطق بها، لكنها تحرك عقله، ترتبه، تهيكله، تضع لها الأطر المطمئنة لتفكيره. ليس هذا هو مزاجي بالضبط، ولكن مفاجأتي به باقية. وقليل من الغيرة السياسية يتسرب اليّ، بغفلة مني.

فتأتي الرفيقة إيمان… من هندامها الذي لم تغيره عندما أتت لتسكن في المركز، هندام حرّ، تأخذ فيه كامل راحتها. فضفاض بقماش قليل وقصات ناتئة وعري الزنود، وشعر مالس طويل تتركه طليقاً، وعيون مكحّلة… هكذا تقدم الرفيقة إيمان نفسها إلى المركز الحزبي. لا أفهم هذه الحرية في تنظيم هندامها إلا بعدما تتبين لي درجة اندماجها، بل «عضويتها» في المجتمع الشيّاحي. فإيمان ليست وحدها من بين بنات الشياح التي ترفض تقديم صكوك براءتها عبر تغطية جسدها. مثلها مثل جاراتها في حيّ أسعد الأسعد، واثقة من «براءتها» من التهم والشائعات حول المركز؛ ولا تأبه ثانية واحدة لكلام الآخرين، طالما أهلها كلهم موافقون على سلوكها. ولكن هذه ليست خاصية الرفيقة إيمان الوحيدة. هي أيضا لا تنام في المركز، كون منزل أهلها قريباً. تأتي صباحاً، وتعود في المساء. ولا مرة حضرت الرفيقة إيمان إلا ومعها كتاب، ودفتر صغير وقلم. تقرأ أثناء الأوقات الميتة، تسجّل، تشرد. كأن الذي حولها حديقة غناء، لا مركز حزبي مستحدث، معرَّض للقصف أو القنص أو الهجوم من الجهة المقابلة، اللصيقة… أسترق النظر إليها، الرفيقة إيمان، ولست مستعدة بعد لسؤالها عما تفعله. فبذلك أغذّي غيرتي السياسية التي يشعلها الرفيق رزق. ولكنني أسأل… أسأل الرفيقة زينب، كونها ابنة الشياح، ماذا تفعل الرفيقة إيمان خارج كونها عضوة في الحزب الشيوعي؟ «انها مدرّسة وكاتبة…»، تجيبني زينب. ألحّ عليها: «وماذا تكتب؟». انها تكتب في جريدة الحزب مقالات عن كتب قرأتها. نقد أدبي يعني… مناضلة في المركز، طوال النهار، تسرق الوقت لتقرأ، لتعود إلى البيت لتكتب؟ وسط كل هذا الرصاص؟ يا لها من امرأة! «لا تنسي انها ليست متزوجة»، تقول زينب، «انها لن تعود الى بيتها، لتنكبّ على الطبخ والتنظيف….!». نعم، نعم، أفهم. ولكن هذه أول امرأة أتعرف عليها، تكتب وتنشر. وهذا ما يجعلني أفهم قليلاً أكثر طبيعة هندامها. الجو المحيط بها، طبعا، ولكن أيضاً ذاك المظهر الذي تحرص على اتقانه: شبيهة سيمون دي بوفوار، أو أنني أتوهّم، أريد أن أتخيل، أن اقنع نفسي بأن تفوق الحزب علينا من هذه الناحية، الاضافية، ليس سوى أنه قريب من بنات أفكارنا، نحن أعضاء المنظمة.

الرفيق كمال هو البطل المضاد، البطل الشقي، في الحزب. شبيح بالفطرة، ولكنه شبيح مقموع من قيادة الحزب. كلما حاول ان يقلد تلك الحركات التي بدأت تنتشر بين حزبيينا، كان نصيبه التوبيخ وأحيانا الإنذار. ماذا يحاول ان يفعل الرفيق كمال؟ أن يحمل رشاش الكلاشنيكوف على الدوام، أن يرفعه عاليا كلما كان ماشياً، أن يخرج بوزه وهو يقود السيارة، أن يمشي في الشياح ناشراً عضلاته على الأهالي، أن يتدخل في شؤون الناس، أن يطلق الرصاص على الطالع والنازل، أن يشفّط بالسيارة ويسرع بها في أضيق الأزقة… ولكن الرفيق رزق بالمرصاد؛ تأنيبه الحزبي يصل إلى مسامعنا، يخرج منه الرفيق كمال مطأطأ الرأس، منخفض الكتفين، كأنه مهزوم. ولكن سرعان ما يعود فيقوم بتلك التشبيحات، فيقمعه الرفيق رزق… وهكذا… وخلال السنوات اللاحقة، عندما تحول المسلحون الى أراهيط متحكّمة برقاب البشر، يرتكبون الجرائم والسرقات ويشتبكون بين المدنيين… وكانت بيانات الأحزاب التقدمية تدين بشدة أعمالهم، هذه وتعتبرها من أفعال «عناصر غير منضبطة»، كانت صورة الرفيق كمال تعود إلى ذهني، بضخامة جسمه، وشرر عينيه، فأشرع في التساؤل إن كان هو من بين تلك «العناصر».
(نوافذ)

السابق
سلام لن يدعو الى جلسة حكومية هذا الاسبوع
التالي
الجميل : حزب الله مكون اساسي في البلاد نحترم دوره وطروحاته