«مارسيدس» لهادي زكّاك.. سيارة تحكي تاريخ بلد

تنتمي الأفلام الوثائقية للّبناني هادي زكّاك (مواليد بيروت، 22 آذار ١٩٧٤) إلى نوع سينمائي مرتبط بالحَفر في جذور الحكايات، وتاريخها. تعود إلى الماضي لاستكشاف بعض المخفيّ فيه، ولقراءة شيء من راهن منبثق منه. تُفكّك المبطَّن. تتوغّل في ثنايا الهامش كي ترسم، أو تحاول رسم بعض ملامح المتن. تتجوّل في الذاكرة كتجوّلها في الآنيّ، وتشاهد الأحداث كي تشهد لمآزق وانقلابات خطرة وأوهام مشحونة بانكسارات. تُصوّر تاريخ السينما في لبنان، أو بعض فصولها («سينما الحرب في لبنان» في العام 2003، و«لبنان من خلال السينما» في العام 2003 أيضاً)، تماماً كما تنبش في التاريخ اللبناني عبر «مادة التاريخ» المُدرَّسة في مدارس خاصّة موزّعة على طوائف البلد ومذاهبه («درسٌ في التاريخ»، 2009). لا ينسى المخرجُ اللبناني الطوائفَ والمذاهبَ نفسها، فيخترق بعض المحجوب فيها كي يقول أحد أسوأ معاني لبنان في هويته وانتماءات أبنائه («أصداء شيعية من لبنان» في العام 2007، و»أصداء سنية من لبنان» في العام 2008).

لا يكتفي هادي زكّاك بما يُطلب منه تحقيقه أحياناً كأفلام وثائقية تلفزيونية، لا يتردّد عن ممارسة اشتغال سينمائي ما فيها، بحسب مزاجه الفني ـ الثقافي ـ الجمالي. يُتقن مزج التسجيلي بالفني فيها، بهدف إيصال المعنى المراد له أن يصل إلى المشاهدين. في المقابل، يختار عناوين لافتة للانتباه ومثيرة للسجال بالنسبة إليه، فينفتح على تفاصيلها ومعانيها وحكاياتها ومساربها، كي يُعيد فهم الوقائع بحسب ما يبلغه من معطيات أثناء تنقيبه في أعماق ما يختاره من مواضيع سجالية.
«مارسيدس» (2011) أحد هذه العناوين المثيرة للجدل. يختار هادي زكّاك تاريخ حضور سيارات الـ «مرسيدس» في لبنان منذ خمسينيات القرن المنصرم، كي يروي فصولاً من التاريخ اللبناني العام، في الاجتماع والاقتصاد والثقافة والتربية والسلوك المعيشي العام. تعريفٌ أول بالفيلم: «60 عاماً من تاريخ لبنان، من خلال قصّة مرسيدس «المدعبلة»، وعائلتها الألمانية ـ اللبنانية». تعريفٌ ثان: «مارسيدس: قصّة سيارة وعائلة ووطن». تقديم الفيلم بحسب الملفّ الصحافي يوضح مفاصل أساسية: «هذه قصة سيارة مرسيدس «المدعبلة»، التي أصبحت رمزاً للبنان قبل الحرب الأهلية، والتي شهدت على التحوّلات على الساحة اللبنانية على مرّ العقود. هذه قصّة عائلة ألمانية «تلبننت» عبر السنين. هذه قصة وطن وتاريخه المعاصر». هذا اختزال للفيلم (68 د.) لا يُلغي مقوّماته الدرامية الأخرى، المبثوثة في ثنايا السياق التاريخي المستند إلى أدوات التسلسل التاريخي التقليدي، لإتاحة الفرصة أمام المشاهدين كي يتابعوا كل شيء: تطوير السيارة بأنواعها المختلفة في مقابل المسارات المتنوّعة للحياة اللبنانية العامة. ليست السيارة فقط، بل الشاحنات والباصات أيضاً. اندلاع الحرب الأهلية مفصلٌ لا يُلغي ما قبله، ولا يتعالى عمّا بعده. للسيارة في اندلاع الحرب الأهلية هذه دورٌ، كما كان لها دورٌ قبلها وأثناءها وبعد نهايتها المزعومة وبداية السلم الأهليّ الهشّ والمنقوص. لها في الحياة اللبنانية كلّها ثقافة متكاملة، تبدأ بأنواع السيارات وأشكالها وألوانها وكيفية مواكبتها العصر والتقنيات وآلية الاستفادة منها، ولا تنتهي عند ارتباطها الوثيق بوعي اللبنانيّ كما بلاوعيه إزاء ما تعنيه هذه السيارة من صُوَر اجتماعية وثقافية تجمع الثريّ بالفقير، وتربط بين الشباب والكهول، ولا تقف حائلاً عند امتلاك رجال ونساء لها.
استخدام أشرطة فيديو يتوازن والاستعانة بصُوَر فوتوغرافية. السيارة هي التي تروي، بأنواعها وأشكالها، حكايات البلد وناسه، وحكايتها هي أيضاً مع البلد وناسه. كأن هادي زكاك يتماهى بها، تاركاً إياها تأدية دور البطولة الأولى في فيلم ينسج حبكته على إيقاع بلد وتحوّلاته، وعلى أنغام هواجس فردية وجماعية للّبنانيين في شؤون الحياة كافة، وعلى نبض عيش لبناني موزّع على شرائح بيئاته كلّها. أما العنوان، فيبقى الأقدر على اختصار الصورة اللبنانية في علاقتها بهذا النوع من السيارات، إذ يتلاعب هادي زكّاك بالكلمة، مستعيناً بـ «مار» (القديس)، ومُسقطاً هذا التعبير «التقديسيّ» على الاسم الأصلي للسيارة، فيُصبح العنوان «مارسيدس».

(السفير)

السابق
انطلاق «عاصفة الحزم» الخليجية لإنقاذ اليمن
التالي
عون: أنا قادر أن أتحدث مع الجميع وأعيد الاستقرار