يوم اكتملت الرسمة.. مع الجدّ هاني فحص

عاصم ترحيني
لم يستطع عاصم ترحيني اكمال رسمة بيته الخالية من أب يحضنه، يروي عاصم في هذه القطعة الأدبية الرائعه كيف عاد وأكمل رسمته الحميمة عندما وجد أباه في حضن جدّه الدافىء هاني فحص.

لطالما تملكني شعور بالغيرة من أترابي الذين أتقنوا فن الرسم، عندما كنت صغيرا، تلميذاً على مقاعد الدراسة الابتدائية.

عبثاً حاولت حينها أن أرسم اللوحة التقليدية التي يرسمها كل الأطفال في العالم، بيت صغير فوق هضبة خضراء، أمامه تقف عائلة سعيدة تشابكت أيديها، وعصفورين يجاوران الشمس في رقصتهما. لكني، لم أفلح مرة، في إتمام الرسمة كما ينبغي، أو إتقان رسمها كما بعض رفاقي. نحن العائلة الصغيرة، ذات الأكف الصغيرة المتشابكة دائما، لم يكن لنا يوما، بيت ثابت، فتكاليف الحياة التي أرهقت أمي، كانت سببا في انتقالنا الدائم من بيت إلى آخر، من حي إلى آخر، إلى جيرة جديدة وغرف جديدة ودكان جديد.

كنا في انتقالنا المتكرر، أشبه بالقطط حديثة الولادة، التي تحملها أمها من مخبأ إلى مخبأ، ومن شمس إلى ظل أو بالعكس، هربا من كثير من القلق وطمعا ببعض من الطمأنينة.

في كل مرة، ننتقل فيها إلى بيت جديد، كنت أركض لحظة نحط رحالنا فيه، إلى الشرفة، أستشرف عناصر المشهد الجديد، بحثاً عن ظل صبية تعيش في الجوار، مصغيا للأصوات التي تتسرب من خلف الأبواب والشبابيك، عسى أن تهديني إلى صداقات جديدة وحياة جديدة. وحين أكتفي من معاينة ما في الخارج، أتفقد “المراحيض” أو “الحمامات”، لا تضحكوا! لا تستغربوا! فقد كان تنظيفها من المهمات الملقاة على عاتقي، في احتفالات التنظيف الأسبوعية -هوس أمي الأبدي- لذلك لا بد لي أن أقيّم حجم الجهد الذي علي أن أبذله في المقبل من الأيام.

على أن مهمة شقيقتي الكبرى نانا، كانت أشق المهمات، فهي في كل مرة، تتكبد عناء تعليق صور “بريتني سبيرز” من جديد، على حائط الغرفة الجديدة، بينما تنهمك شقيقتي الأخرى عزة بإخفاء قجتها ورسائلها الغرامية الكثيرة.

عندما أعتاد أماكن ترتيب الصحون والمناشف والمونة وأدوات التنظيف، وأجيد التنقل بين الغرف في الظلام من دون الاصطدام المفاجئ بمسكة الباب أو طرف الكنبة، تصبح الشقة الجديدة منزلا، وأوقن أني تخطيت مرحلة التعارف والتكيّف ووصلت إلى مرحلة التآلف.

لكن، لمنزلنا الأخير، في حي السراي في مدينة النبطية، الذي رقدت فيه ناقة سفرنا، رقدتها الأخيرة، الحنين كله، بعكس الشاعر الذي يحن للمنزل الأول، ففيه نمت معرفتي بالدنيا، وفيه ارتفعت قامتي الصغيرة، صرت فيه فتى، يستطيع أن يقف أمام الكتب المكدسة في مكتبتنا وأقرأ عناوينها دون الاستعانة بالكرسي، وأفتح بابها الزجاجي من دون خوف من وقوعه، ومن صوت أمي يحذرني بالابتعاد، يوم اخترت منها ديوان محمود درويش، ووقعت على قصيدة “الحصان الخشبي”، فشعرت أنها أجمل ما قرأت، ربما لأنها كانت أولى القصائد التي اخترتها بنفسي.

وكنت حين تلحّ مشكلة ما على بالي، أهرب إلى الكنبة على الشرفة، أتكوّر على نفسي في ضيق مساحتها، أصغي إلى نباح كلاب الحي ودقات قلبي، وقهقهة شبان مخمورين على التلة قبالتنا.

ولم أفلح في إتمام الرسمة، كانت ناقصة على الدوام، اكتشفت يوما، أنها لن تكتمل، فما من أب يقف إلى يميني! ربما كان غيابه من يومياتي شيئا عاديا، او اعتدت عليه، لا أدري. لكنني في قرارة نفسي كنت دائم البحث عنه. أذكر أن أمي أرسلتني في يوم عطلة مدرسية، إلى مطعم الفول، لأشتري ترويقة، صعقت وأنا أنتظر دوري، بمشهد أب يعلم ابنه كيف يلف لقمة الفول، ولا أبالغ أن أقول أني لذت حينها بركن المحل وبكيت.

غاب الأب مجددا عن الرسمة، وأنا ما زال الرسم يستهويني، وأريد لرسمتي أن تكتمل، أريد أبا يقف إلى يميني، ووجدته…لم أجده، بل كان معي دائما، إلى يميني ويساري وأمامي وخلفي، هو الذي وجدني، هو الذي أكمل رسمتي، إنه جدي حبيبي… في عزّ ضياعي، أمسك بيدي، ووضعها على قلبه، وقال لي: هنا بيتك، هنا تسكن أنت ونانا وعزة وأمكم، وتعال نرسم سويا لوحتنا الفريدة، البيوت يا صغيري ليست حجارة وأبوابا فقط، البيوت قلوب.

هاني فحص، جدي حبيبي… أحييت الطفل في داخلي، ثم جعلته رجلا، كان لوجودك في رسمتي، أجمل حضور، وأصفى لون، وأعمق معنى، أعدت لها عناصرها الهاربة، وأبعادها الكثيفة.هاني فحص

للحياة دائماً حكمتها، فهي تأخذ منك بيد، وتعطيك بالأخرى، ترمي بك في قعر الهاوية، ثم ترفعك إلى القمة، تخيب آمالك، ثم تعيد ترتيب أحلامك، تحرمك من أمور عادية، ثم تفيض عليك بهاء وحبا، وكثير من المفارقات الجميلة والمصادفات الغنية.

هذا الكون مليء بالحب والأمل والاحتمالات، منحني يوماً حضناً وخيمة، وقمرا حوله هالة أنارت ليالي الحالكة وغربتي واغترابي، ورصّعت أيامي بابتسامة دائمة وصبر لا يعرف النفاذ.

رسمتي اكتملت، زينتها بقامتك، بعمامتك، بقلمك وبفرح عينيك الدائم، وسأرسم دائما، على كل الأوراق البيضاء التي تقع أمامي، قلبا كبيرا واسعا في وسطه بيت صغير أمامه تقف عائلة صغيرة بأيد متشابكة، وقلوب مطمئنة.

السابق
حلويات فاحشة وعنصريّة
التالي
هواء ثمنه 65 ألف دولار!